02-ديسمبر-2016

تشيهارو شيوتا/ اليابان

لماذا لا يقع الحمار في ذات الحفرة مرتين إذًا؟! يبدو الأمر سخيفًا للوهلة الأولى أن نبتدئ، في حديثنا عن الذاكرة البشرية وما لها وما عليها، حديثًا آخَر عن فيلم إنيميشن بكل بساطة؛ ربما هو الأمرُ كذلك يستدعي حقًا المراعاة، وربما -بالنسبة لي شخصيًا- يشعرُ المرء بالغربة حد التخمة في هذا الوجود المتهالك، الخاوي كليًّا من الإجابات على الأسئلة الأولى، التي يطرحها المرء على نفسه بعد الولادة حال وفاة أبويه.. لماذا أنا هنا؟ ما المطلوب؟ إلى أين المسير؟.. ما الذي يحدث في الخارج؟ 

كونديرا: الاسم شكل من أشكال الاستمرارية في الماضي، والذين لا ماضي لهم هم أناس بلا اسم

امممم إنهم يتحدثون عن الحروب وأعداد القتلى؛ عن دونالد ترامب، عن خيانة زوجية حدثت ذات يوم؛ عن جائزة نوبل للسلام؛ عن قيمة أدونيس أو عدمها؛ عن مفهوم "القصيدة اليومية" وماتصبو إليه؛ عن رسومات مؤلمة يخطّها شاب عراقي شرقًا، أو عن سحر اللغة العربية، يتغنى بها أبناء المغرب؛ عن إدمان المشاهير على الطلاق؛ عن ميزانية المواقع التي تُعنى بالثورات وقضايا الحرية… ولا زلتُ أنا: من أنا؟ أين؟ كيف؟ لماذا؟ بماذا؟ متى؟ ولماذا مجدداً؟.. إجابة: كي نستمر. سؤال: بماذا؟. إجابة: بالوجود. سؤال: لماذا؟. إجابة: كان صموئيل بيكيت يمشي في شوارع باريس، توجه إليه متسوّل يستجدي صدقةً منه فرفض، فطعنه المتسول بسكين؛ كاد يموت بيكيت في تلك اللحظة، وفي التحقيق لم يتّهم بيكيت المتسول بأي شيء.. إلا أنه كان قد سأل المتسول عن سبب طعنه له فأجاب: لا أدري يا سيّدي.

اقرأ/ي أيضًا: عن الفن.. اقتراح للخلاص من القشعريرة

وهكذا.. تَراني أبحث عن أيِّ شيء بإمكانه إنصافي، إنني أبحث عن قِيمة من شأنها أن تُساهم في حلّ إشكاليَ الأول، أبحث عن "ركائز"؛ بدونها تصبح الحياة خالية من أي معنى، ويُصبح الإنسان فيها كائنًا غير جدير بالاحترام... إذ لا فرق بين الانتحار، والموت جوعًا، ومتابعة السير دونما إجابات.

لقد سألتُ نفسي مرارًا بعد مشاهدة فيلم "The Revenant" ما الجدوى من دي كابريو يسير يسير، والغرض من سيره هو السير فقط؟ ما الجدوى؟ إن كانت المتعة البصرية تُدرك قيمة نفسها، ويُدركها الآخرون، فلماذا يدفع إيناريتو الرجلَ ليسير كل تلك المسافة، ويَبيتَ في جوف الدابة الميتة ليلته؟.. حسنًا.. إنني غير معنيّ بكل ذلك.

وجدتُ ضالةً لي -ربما- في فيلم الإنيميشن "Kubo and the Two Strings"، شاهدتُ اللقطات الأولى عنوةً حينما باغتتني أسئلتي في مطلعه، لكنني تحاملتُ على نفسي وقلت: إنني أستمتعُ بصريًا في هذه اللحظات مثلما يريدوننا على الدوام.. سأتابع.

يرتكز الفيلم على قصةٍ حدثت في القدم عن سيدة خالفت عادات عائلتها في حُبها لفارس ساموراي، فاستحقت اللعنة من العائلة التي قتلت زوجَها وطاردتها وابنَها… يكبرُ الابن ويتعلم من والدته تجسيد قصة (لا يعلم نهايتها) وصناعة أبطالها من الأوراق الملونة، وتحريكهم عن طريق العزف على أوتار أداة موسيقية.. وتجري أحداث الفيلم في إطار بحث ذاك الصغير في واقعهِ عما حدث في الماضي مع والدته، لتغيير بعض المعطيات المسبقة في القصة، ما سيغيّر بطبيعة الحال من النتيجة التي يعايشها في الوقت الراهن. بنفس الطريقة التي تخاطب نفسكَ فيها بالقول: لو كنتُ فعلتُ كذا، لكانت النتيجة كذا.. ما شدّني في الفيلم هو عبارة في منام الصغير تقول بالإنجليزية: "Give this story a happy ending" إمنح قصتَكَ نهايةً سعيدة، وجملة كان يرددها الطفل خلال الفيلم: "إن نسيتم أي جزء من قصتنا هذه، فسيموت بطلنا بكل تأكيد".

الجحيم بالنسبة للمؤمن هو ما يتذكره بشكل متكرر من العقاب على الخطيئة

إن الإنسان هو ذاكرته، يقول الفيلسوف الإيطالي الراحل أمبيرتو إيكو: "حينما يقول الإنسان (أنا) فهو يقصد ذاكرته"، إذ أن الذاكرة حسب إيكو هي الروح، وبدون الذاكرة يصبح الإنسان أشبه بنبتة، إن الجحيم بالنسبة للمؤمن هو ما يتذكره بشكل متكرر من العقاب على الخطيئة، ويقصد هنا أن الذاكرة هي ماهية الإنسان المستقبلية. سأتابع حديث إيكو قبل مناقشته.

اقرأ/ي أيضًا: صادق جلال العظم.. تفكيك الحب

يقول: "إن الذاكرة تكبر عبر الزمن، والكاهل يمتلك ذاكرة أكبر من تلك التي يمتلكها البالغ، لذا فهو يملك روحًا أكبر… والذاكرة اختيارية لأننا نُلغي منها ما نكرهه، ونُبقي على ما نُحبه لكن بطريقة مشوَّهة"، كما في هذه النقاط المتباعدة.

يُتابع: "إن الجماعات الرجعية تتذكر دائمًا (عن أجدادها) ما يُعجبها وتتشبث به، على عكس الجماعات الثورية التي تدعو دائمًا إلى البداية من الصفر (يقول عباس محمود العقاد: إن الثورة هي ثورة على الموروث) إن الذاكرة المشتركة هي الهوية المشتركة، إذ ليس بإمكاننا أن نستحضر أوروبا ونتعامل كأوربيين دون تذكر شكل الهوية الأوروبية.. هناك هوية مشتركة للعالم بأسره تتواجد في الكتب.. ومكتبة الإسكندرية هي محاولة للحفاظ على الذاكرة.. لقد وصفَ دانتي الله بأنه مكتبة كل المكتبات".

هذا ملخص ما جاء به إيكو عن الذاكرة؛ من جانب آخر يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا في عمله "الضحك والنسيان" إن "أول خطوة لاستئصال شعب هو محو ذاكرته عبر تدمير كتبه وثقافته وتاريخه، ثم يتم تكليف شخص بكتابة كتاب جديد، وصنع هوية جديدة لهذا الشعب، وقبل مرور وقت طويل سيكون هذا الشعب قد نسي من هو، ومن يكون، وتكون الأمم التي حوله بنسيانه أسرع". هذا ما انتهجه تنظيم الدولة في الموصل. ويقول كونديرا: "الاسم شكل من أشكال الاستمرارية في الماضي، والناس الذين لا ماضي لهم هم أناس بلا اسم"، وكذلك أولئك الذين يشطبون ذاكرتهم باستمرار.

لستُ أدري من أنا الآن وسط هؤلاء، إلا أنني وظفتُ نفسي في هذا المقال كـ"ذاكرة"، حينما أمنحك جملة خبرية، أو معلومةً قرأتها، أو أخبرك عن 99 طريقة لا يمكن أن يعمل من خلالها المصباح الكهربائي، فأنا أمنحك الوقت، وأوفر عليك عناء البحث في المستقبل.

ماهو المعيار الزمني لنضوج فكرة ما في رأس إنسان؟ إلى متى يتوجب على المرء أن يغير فكرة في رأسه؟

لازلتُ أشعر بالملل في كثير من الأحيان، أملُّ من أفكاري، ملامح وجهي، عضلاته أثناء الضحك.. ربما كان ذلك السبب الأوجه الذي يدفعني إلى إعادة النظر في نفسي على الدوام.. الملل نعم.

اقرأ/ي أيضًا: البرلمان المصري: نجيب محفوظ خادش للحياء أيضًا!

سألتُ نفسي ذاك اليوم، ماهو المعيار الزمني لنضوج فكرة ما في رأس إنسان؟ إلى متى يتوجب على المرء أن يغير فكرة في رأسه؟ تقدّمتُ لنفسي بعرضٍ أن نكُون شخصية منطقية لكن من زاوية أُخرى، كنت أريد أن أجرّب جميع وجهات النظر والشخصيات المنطقية في هذا العالم، وبعد ذلك أجريت عملياتي الحسابية كالعادة.. كم من الوقت يتوجب على المرء أن يعيش كي تتسنى له تجربة شخصية منطقية أُخرى من منظور آخَر، أريد مثلًا أن أجرّب تجسيد الحقيقة من منظور "كيم جونغ أون" أو "فوكوياما" أو "هيغل"، أو "ياسين الحاج صالح" مثلًا… هل المنطق نِسبي؟ إذًا فالعقل نِسبي.. العقل مصيبة مستحيلة الحصر أو الحل.. هل يتناسب عدد الأفكار المنطقية مع عدد العقول أو طرائق التفكير؟

أجبت: (كنت سأضع علامتي اقتباس).. من الجيد أن يتذكر المرء، كي لا يمد يده إلى النار، مرةً هذا اليوم، ومرة بعد عام على الأقل.. إن تلك الذاكرة القصيرة التي حالت دون حرقه ليده، قد وفّرت عليه الكثير. 

لكن بالمقابل قلت: صحيح أن البشر كانوا أذكياء في اختصارهم للزمن عبر اختيار هويةٍ ما، ونوعًا من الذاكرة أو جزءًا منها، إلا أنهم لا يزالون إلى الآن يعيدون التجربة ذاتها التي أفضت بأولئك في الزمن البعيد صفر اليدين… كم من الوقت يتوجب عليهم أن يعيشوا في هذه الحالة؟ أليس ثمة طريقة يمكن من خلالها تحديد المنطق وحصره؟ ألا يمكننا أن نحدد النتائج (ذات الجدوى) لكل فعل، على ألا تتعارض أيٌّ منها؟ ثم أفضى بيَ الأمر إلى نتائج امتدحت سياسة القمع وكبح جماح العقل البشري في نقاط لا أعتزمُ الحديث عنها هاهنا، من حيث أنها (كبح جماح العقل) تختصر عليه الوقت والمسافة، والقانون هو أحد أشكال اختصار الزمن والتجربة، ومهمة المثقف الآن تكمن في منح العالَم اختصاراً، لا إعادة الماركسية مثلًا بعد قرون على اندثارها وبقاء نتائجها الكارثية والمخزية فقط.

يبدو أنني سأخرج من هذا المقال دون الحديث عن شيء. حسناً.. ما أود قوله بعد كل تلك الثرثرة، أنني أقف في منزلة بين الوجودية الإلحادية، وبين حديث الذاكرة لدى إيكو، ففي الوقت الذي تُبالغ فيه الوجودية بأن للإنسان أن يختار ما يريد، وله الحرية المطلقة في تجربة كل شيء، وأن الإنسان يستطيع من خلال تلك الخاصيّة أن يحدد مستقبله وما سيكون عليه؛ يرى إيكو أن الذكريات هي من تُحدد شكل المستقبل، فما أتذكره عما فعلَته حبيبتي، لا يمكن أن يُعيدني إليها مرة أُخرى.. وما يتصوره إيكو عن الشخصية الأوروبية لايمكن نزعها عن ذاكرتها..  وما أتذكره مثلًا عن دموية أحد الأديان بوصفهِ شيئًا مُستحبًا، يجعلني نُسخة جديدة عنه، وأنايَ الحالي هو أنايَ في المستقبل بناءً على أنايَ الماضي، والأنا العثمانية هي الأنا التركية في الوقت الراهن مع بعض التعديلات، وأتاتورك جاء لينسف ذاكرة ويضع أُخرى عوضًا عنها.. وفرنسا لا يمكن أن تعتقل فولتير، وإيطاليا تعلم جيدًا من هو موسوليني، وتعلم أيضًا من هو غاريبالدي.. والسعودية تعرف محمدًا.

إن الشخصية الصالحة التي أتصورها، تقف في تلك المنزلة (بين المنزلتين) إلى جانبي.. شخصية نسفت التاريخ كما حلله فوكو بإعادة ترتيب المستقبل وفق المعطيات التي حدثت في الماضي ليقول للعام: إنكم عبارة عن سلسلة متصلة… شخصية ستجرّب كل شيء، إلا أنها تختار منه ما تراه صالحًا وتحدد بناءً عليه ماهيّتها.. لكن ما الفائدة من نسف أم كلثوم مثلًا؟ كيف يمكن أن نُحدد الذاكرة الحسنة والقبيحة، أو مفهومَي القبح والجمال إن كان العقل كما قُلنا ينزع نزعاتٍ لا يمكن معها حصره؟ لا أملك الإجابة على المستوى الشخصي، ثم إني نسيت أن أتحدث عن فيلم الإنيميشن.. حسنًا شاهدوه بعد قراءة هذا المقال، لكن تذكّروا أن الآخَر حينما يراقبكم -بالمعنى الحرفي للمراقبة- يفرض عليكم قانونًا أشبه ما يكون بالذاكرة.. لا تكترثوا له وGive your story a happy ending.. أما أنا فسأتابع طريقي إلى الجحيم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل كانت المعلقات "سورًا" دينية لآلهة العرب؟

باريس، عمّان، دمشق: عن حتمل وطمّليه