29-سبتمبر-2015

يرفض أبناء جيل اليوم العيش كما عاش آباؤهم (عمر الكالوتي/Getty)

نحن اليوم في عصر الانفتاح، الجميع باستطاعته أن يتصفّح الإنترنت، أو يقرأ كتابًا، أو يشاهد فيلمًا يغيّر نظرته البالية للتّربية وطُرقها. ولكنّ التغيير ليس سهلًا. حتّى اليوم ستصادف حالةً من حالات سوء التّربية في كلّ عائلة على الأقلّ. في الغرب يختلف الأب مع ابنه إذا تغيّب حضور اجتماع العائلة، أمّا هنا، ففي كلّ منزل وقعت الفاجعة عندما علم الأب أنّ ابنه المراهق يدخّن بالسّرّ. ليس هذا مديحًا للغرب، أو استشراقا، إنما عرضا للحالة.

تأثير الدين: فزاعة حكم الردّةّ!

يحضن الأولاد العديد من البيئات في فترة صغرهم. من المدرسة إلى رفاق الحيّ إلى العائلة الكبيرة، ولكن يبقى دور البيئة الحاضنة الأكبر للأسرة. مهما كبر الولد وتغيّرت بيئاته، سيشبه والديه بشيء لا محالة، وسيختار نمط حياة مشابه لنمط حياة أهله على الأرجح، ولكن في أبسط الحالات وأكثرها تقليديةً، فإنّ الولد سيعتنق دين أهله في المرتبة الأولى، كيف لا والدّين يظهر في كلّ ما يمتّ للحياة بصلة، الآباء يقسمون باللّه أو بمحمد، أو بعليّ، أو بالعدرا، والأولاد كذلك. الآباء يأكلون أنواع محدّدة من الطّعام والأولاد أيضًا. الآباء يصلّون في الجامع أو في الكنيسة ويصومون يومًا أو نصف يوم وكذلك الأولاد.

هذا ليس لأنّ الأولاد أحبّوا واقتنعوا بدين أهلهم، بل لأنّهم واجهوا الدّين في كلّ يوم، وتأقلموا معه بمساعدة جوّ الأسرة حتّى اعتنقوه وأصبح جزءًا لا يتجزّأ منهم، ولم يعوا ذلك إلّا عندما احتكّوا بدين آخر وبالطّبع لم يسمحوا لأنفسهم أن يتغيّروا. إن كانت العائلة منغلقة بما فيه الكفاية، فسيتبع الولد أباه المؤمن أو أباه الملحد، أمّا إذا كانت العائلة منفتحة فسيشبه الولد أباه دينيًا أيضًا ولكن إلى أجل مسمّى، إلى أن يقرأ أو يواجه دينًا آخر أو ينصرف إلى منحى ثيولوجي آخر.

بالحديث عن الدّين تحديدًا، هناك قاعدة من قواعد نقل الدّين إلى الجيل الجديد غير المتعارف عليها تنصّ بالانغلاق على الدّين المُعتنق وحجب كلّ ما هو جيّد في الأديان الأخرى عن الأولاد وتوجيه نظرهم إلى كلّ ما يُعتبر خاطئًا وحرامًا، عند أهل الأديان الأخرى، والتّركيز على جوانب الاختلاف والتّناقد بأدقّ تفاصيلها، هذا ما يمنعهم من الاطّلاع على الأديان الأخرى وربّما الاقتناع بأحدها. وهذا ما يهابه "ديكتاتوريّو" الأديان، ووحش كبير هنا، اسمه المجتمع.

يتأثر الأبناء بأديان آبائهم ولا يسعهم تغييرها بسهولة

ولكن، في عصر الانفتاح بات الانغلاق مستحيلًا. إمّا أن يحصّن الآباء أولادهم ضدّ كلّ شيء مختلف، أو أن يروا الأولاد يتحرّرون من الإرث الخانق. في مجتمع محافظ، سيفشل آباء في التّربية الشّرقيّة، أو سينجح أولاد في التّحرّر، وفي كلا الحالتين سيدبّ الصّوت ولن يتقبّل الأهل اختلاف الإبن مهما كلّف الثّمن.

أحمد من عائلة مسلمة متديّنة يبلغ من العمر عشرين عامًا. قرأ عن الأديان وبحث فيها، وبعد سنوات من العبادة أقلع عن الدّين، وأصبح لا يؤمن بما لا يراه، ولكنّه لا يزال يصلّي تمثيلًا. يخاف من أهله، يخاف من ردّة الفعل، يتخيّل ردّة فعلهم كشيء مصغّر عن حكم الرّدّة في الإسلام، يقول لي "إذا عرف أبي الحقيقة فمن الممكن أن يُجنّ ". أحمد يعيش مع أهله في منزل واحد، وعليه أن يشبههم لأنّهم لا يقبلون الاختلاف بأيّ شكل من الأشكال، ينتظر أن ينتقل يومًا ما إلى بيتٍ مستقلّ، وحينها يمكن أن يتحلّى ببعض الشّجاعة الكافية للإفصاح عن ما يخفيه، وسيمارس حياته الحرّة بعيدًا عن قيود العائلة. السؤال الآن: كم "أحمد" بيننا؟

حتى سابع جار

مرض "الأنا" يطال أحيانًا الأبناء، وتنسب أفعالهم وإنجازاتهم للأهل. وهذا يظهر جليًّا في صبحيّة الجيران عندما تتباهى الأمّ قائلة "أنا ابني يدرس الهندسة". ولو سألها أحد الجيران عن نوع الهندسة الّتي يدرسها ابنها ربّما لم تكن لتعرف، هي تعلم أنّ الهندسة تعبّر عن مكانة مرموقة وراتب جيّد وعادةً ما يختارها نخبة التّلاميذ، كلّ هذا كافٍ ليجعلها تفخر بإنجاز ابنها، ولكن لو غابت جميع الأسباب وبقيت الهندسة ذات سمعة جيّدة، فستعيد الأمّ مقولتها في كلّ جلسةٍ تمرّ فيها كلمة ترمز للعلم أو للعمل أو ما شابه. إنها العائلة وهرمية العائلة.

في المقام الأوّل يأبه الأهل لأن ينال أولادهم وظيفةً ذات مرتّبٍ جيّد

في المقام الأوّل يأبه الأهل لأن ينال أولادهم وظيفةً ذات مرتّبٍ جيّد، وفي المقام الثّاني يريدون أن يتباهوا بوظيفة أولادهم أمام المجتمع، وفي مجتمع كهذا تجد الطّبابة والهندسة في المراتب الأولى. التّفوّق في المدرسة واختيار المجال العلمي ونيل الدّرجات في الامتحانات الرّسميّة وتخصّص جيّد في الجامعة حلم كلّ أب وأمحتّى لو لم تكن قدرات الولد تسمح بذلك. خليل أرسله أهله إلى أوكرانيا ليدرس الطّبّ، غاب خمس سنوات ثمّ استسلم لقدراته وبعدم رغبته بإختصاصه نهائيًا. قام بذلك تلبيةً لرغبة أهله وهذا كلّ ما في الأمر. عد ذلك عاد للوطن وهو يعمل الآن في محلّ لبيع الثّياب في سوقٍ شعبيّ، راتبه جيّد، يقول إنه ينتج كما ينتج المهندس، هو راضٍ عن وضعه ولكنّ أهله في ساحات التّباهي ليسوا راضيين أبدًا. ذهب "برستيجهم" مهب الرياح.

غالبًا ما تهتمّ العائلات ذات الوضع الاقتصادي السّيئ بالمسيرة التّعليميّة للأولاد، يختارون لهم نفس الاختصاص الّذي درسه ابن الجيران بكفالة أمّه التي تمدحه دائمًا. يقنعون الابن أنّ التّخصّص الجيّد والوظيفة السّريعة هم طريق الخلاص، وغالبًا ما تستثنى الفتاة من المخطّط التّعليميّ جديًا. المجتمع ذكوري، كي لا ننسى. وهنا، رغم محاولات التحرر الكثيرة في لبنان مثلًا، ثمة جو ما زال سائدًا في بعض الأوساط، مفاده أنّ الفتاة ستتزوّج من شابٍّ عليه أن يؤمّن لها مقوّمات العيش الكريم وهي بالمقابل عليها أن تكون سيّدة منزل وحسب. يا له من نعتٍ كريه.

مالُ قليل وبنون كُثر = فقر

كلّما عدنا في الزّمن أكثر سنواجه عائلاتٍ أكبر، وإن قارنت عدد أفراد عائلتك بعدد أفراد عائلة أمّك أو أبيك ستجد الفرق الواضح لمصلحة عائلتيّ الأهل، هذا يوصل إلى استنتاج جيّد مفاده انخفاض عدد الولادات مع الوقت، وهذا شيء لا مفرّ منه في ظلّ غلاء المعيشة والأسباب العديدة الّتي تقف ضدّ كثرة الولادات. ولكنّ هذه ليست قاعدة، فمن المؤكّد أنّ صديقا من أصدقائك لديه خمسة أخوة وأخوات أو أكثر، المشكلة ليست بكثرة الأخوة، بل بقدرة العائلة على تأمين متطلّبات العيش الكريم لهم جميعًا. هذا موروث بيئي آخر.

يقول محمد إن الولد يأتي وتأتي رزقته معه

في بلادنا، يربط الآباء فكرة الإنجاب بالسّند. محمّد شرطيّ في قوى الأمن الداخلي، لديه أربعة أولاد. جلسات الغداء لا تخلو من النّقاشات والجدال المطوّلة بينه وبين ابنه الأكبر الّذي يريد زيادة مصروفه، وابنته الوسطى الّتي تريد التّسجيل في جامعة خاصّة، وابنه المراهق الّذي يريد حذاء كرة قدم ذا ماركة مسجّلة، وابنه الأصغر الّذي يريد كما جميع الأولاد في مثل سنّه، اللّعبة المثاليّة وهي الـ "Ipad" أو الهاتف اللّوحي. محمّد يتقاضى مرتّباً قدره مليونيّ ليرة تقريبًا من الدّولة، ولدان في الجامعة وآخران في المدرسة ومتطلّبات لا تنتهي. "ابني الأكبر يعتبر أنّي اقترفت خطأ عندما أنجبته أو أنجبت غيره وأنا غير قادر على تأمين ما يطلبه، يتفهّم أنّي تزوّجت وأردت أن أنجب ولكنّه ضدّ إنجاب أكثر من ولد لرجل في مثل حالتي الماديّة". يتابع: "الأخ سند، فإن أنجبت ولدًا واحدًا من سيكون له في الدّنيا بعد أن نرحل أنا وأمّه". وعند سؤاله عن تفكيره بوضعه الماديّ قبل أن ينجب قال "الولد بيجي وبتجي رزقتو معو". أولاد محمّد لا يموتون من الجوع، ولكّنهم ليسوا سعداء. ولم تأتِ "رزقتهم" معهم. لكن رياح التغيير آتية.

إقرأ/ي أيضًا: شباب ما بعد الربيع العربي

محاولة استشراق

يقول أحمد خالد توفيق في كتابه "يوتوبيا"، "قلت لها إن النّاس يجب ألّا تتزوّج إلّا لكي تأتي للعالم بمن هو أفضل.. طفل أجمل منك، أغنى منك، أقوى منك.. ما جدوى أن يتزوّج الشّقاء من التّعاسة؟ الهباب من الطّين؟ ما الجديد الّذي سنقدّمه للعالم سوى المزيد من البؤس؟"، موظّف المليون ليرة في الشّهر لن يقدّم للعالم سوى حالات من البؤس على عدد أولاده، هو يعلم أنّه يريد الإنجاب والتنعم بدور الأبوّة، ولكنّه نسي أنّه عندما كان طفلًا أراد دميةً رخيصة من المتجر المجاور لبيته ولكنّ أباه لم يملك المال الكافي لشراء الدّمية، وظلّ يفكّر بتلك الدّمية حتّى اليوم. هذا هو الحال في بعض مجتمعات الشرق. أمّا هناك في الغرب فتتكفّل الدّولة بالرّعاية الخالصة، من الطّبابة إلى المدرسة وحتّى في تأمين منزل، وبالرّغم من ذلك لا ينجب الغربيّون بقدر ما ينجب الشّرقيّون. ولكن مهلًا؟ لديهم مشاكلهم أيضًا. والعالم كله إلى الآن، ربما، لم يعرّف "العائلة"، على نحوٍ معقول. الغربيون أنفسهم، واجهوا هذه المشكلة.