11-ديسمبر-2019

بيير بورديو،، عن الدولة (ألترا صوت)

يحاول بيير بورديو من خلال كتابه "عن الدولة" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016) تقديم مقاربة سوسيولوجية لفهم هذا الكيان البالغ التعقيد والذي نجده حاضرًا في ثنايا كل فعل وممارسة تحدث في نطاق ما يسميه بورديو "مجتمع الدولة"، وذلك على الرغم من تميّزه بالتجريد، فالدولة حسب بورديو تقول وتفعل، وفي الآن نفسه تتمنّع على أن تكون مجسِّدة لمصلحة خاصة أو رؤية خاصة، فهي دائما تقدّم نفسها انطلاقًا من العام والجامع. وهذا مكمن المفارقة والصعوبة في مقاربتها وفهمها.

الدولة تقول وتفعل، وفي الآن نفسه تتمنّع على أن تكون مجسِّدة لمصلحة خاصة أو رؤية خاصة

لذلك نجد بورديو في بداية كتابه يشرع في طرح مختلف وجهات النظر حول الدولة مُبيّناً قصورها ومحاولًا تجاوزها، ووجهات النظر هذه تمتد من فلسفة العقد الاجتماعي، مرورًا بـ ماكس فيبر، ووصولًا إلى الأطروحات الماركسية النقدية، وهي وجهات نظر يختزلها بورديو في مقولة "السُّنن التأليهية والمُشيطنة للدولة"، مُعتبرًا أن الدولة لا يُمكن فهمها إلا من خلال تتبع أدق التفاصيل التي تحضر فيها والتي يحددها هو في "مقولات وأفعال الدولة" فما هي التَرسيمة التي يقترحها بورديو لفهم الجهاز المسمى بالدولة؟ وإلى أي حدّ بالإمكان القول بأن وجهة نظر بورديو عن الدولة تتّسم بتجاوز ما قبلها من وجهات النظر؟ أم إن ما يفعله بورديو في الحقيقة إنما هو إعادة ما قيل عن الدولة لكن بصياغات مختلفة لا أقل ولا أكثر؟

اقرأ/ي أيضًا: ​غونتر غراس وبيير بورديو.. أسئلة الأفواه الكبيرة

ينطلق بورديو في حديثه عن الدولة مما هو متداول في حقل النظرية السياسية من نظريات وفلسفات عن الدولة، معتبرًا أن تلك النظريات عانت جميعها من السقوط في الإيجابية المفرطة أو السلبية المفرطة تجاه الدولة، وهو ما أفقدها القيمة التفسيرية لأنها تُعبر دائمًا في نهاية المطاف عن نظرة وظائفية للدولة تُهمل ما عليه بنية ظاهرة الدولة، تلك البنية التي تتشكل من عناصر يتفاعل فيها المجتمعي مع البعد "الدولتي"، وهي عناصر الاعتقاد والشرعية والممارسة الرسمية التي تُخوّل للدولة أن تكون تعبيرًا عن العام والمحايد والمتسامي.

بتفكيك هذه البنية إلى عناصرها، يكون من السهل حسب بورديو الإجابة عن سؤال كيف تتمكن الدولة من تولّي وظائفها؟ وبالتالي فإن ما يُعتبر منطلقًا في النظرية السياسية لفهم الدولة إنما هو حسب بورديو مُحصّلة لعناصر قَبْليّة هي المهمة في الوقوف على ما تعنيه الدولة. وإذا ما تمكنّا من تشريح تلك العناصر فسنكون حينها حسب بورديو قد تمكنا حقًّا من فهم مقولة أن الدولة هي وهمٌ فاعل.

انطلاقًا من هذه الفكرة ليس مستغربًا أن نجد بورديو يدقّق في تفاصيل عمل لجنة من لجان الدولة كلجنة ريمون بار للإسكان وتفاصيل عملية البيع والشراء التي تتم بين بائع مساكن وزبون من الطبقة الوسطى مثلًا، أو عملية الزواج الرسمي، ففي مثل تلك العمليات تتكشَف أسرار بنية ومنطق الدولة، فخاصية الدولة الرئيسة هي قدرتها على التحديد وقول الرسمي والشرعي وتحديد المصلحة.

قبل تقديم وجهة نظر بورديو عن الدولة، نجد أنه من الضروري عرض مداخلاته النقدية حول أهم وجهات النظر الأخرى حول الدولة، وأولها وجهة نظر نظرية العقد الاجتماعي وخاصة عند جون لوك وهوبز، حيث يتم تصور الدولة باعتبارها جهازًا لإدارة المصلحة المشتركة. وجهة النظر هذه حسب بورديو "تأليهية" للدولة وذلك من ناحيتين:

1- افتراض أن الدولة تتمتع بوجود أول مستقل عن الفاعلين، 2- اعتبار الدولة نتيجة إجماع لأشخاص منظمين هم الذين ينتدبون الدولة ويفوضونها، وهي رؤية ديمقراطية للدولة يعتبرها بورديو خاطئة. لأن الدولة من وجهة نظره هي منتج أنتجه فاعلون يتمتعون برأس مال نوعي، من بينهم من يسميهم بورديو بالفقهاء القانونيين الذين حدّدوا ما هو خير وما هو مصلحة للعالم الاجتماعي بمجمله، لأنهم انطلاقًا من رأس مالهم النوعي ينطقون بما يمكن تسميته "خطابًا رسميًّا" يمثل المصلحة والحقيقة، وهذه هي جملة المعاني والتصورات التي ستحتكر الدولة تحديدها حسب بورديو، بالإضافة لاحتكارها للعنف المادي. وهذه العناصر هي التي ستعطيها في الأخير أحقيّة التعبير عن المجتمع وإسباغ أفعالها وأقوالها بطابع الشرعية والرسمية والاعتبارية كذلك.

في الأدبيات الماركسية لا تعد الدولة غاية بذاتها بل إنها اختراع من اختراعات الرأسمالية والبرجوازية

أما وجهة النظر الأخرى والتي يستهدفها بورديو بالنقد فهي تتمثل في وجهة النظر الماركسية بكل تلويناتها واتجاهاتها التي تشترك جميعها في قلب نظرية العقد الاجتماعي عن الدولة، خاصة مقولة أن الدولة تُعبّر عن المصلحة المشتركة، ففي مقابل الرؤية الديمقراطية والتأليهية للدولة نجد في الأدبيات الماركسية ما يسميه بورديو شيطنة للدولة حيث لا تعدو أن تكون جهازًا بيد الطبقات المهيمنة، ولذلك في الأدبيات الماركسية لا تعد الدولة غاية بذاتها بل إنها اختراع من اختراعات الرأسمالية والبرجوازية، وهي بالتالي جهاز إكراه واستغلال.

اقرأ/ي أيضًا: منطق بورديو.. الممانعة تحميك من الإجرام!

ولئن كان بورديو يمتح كثيرًا من النظرية الماركسية إلا أنه يعتبرها موغلة في الموقفية التي تقودها إلى صرف النظر عن فهم ما عليه الدولة حقًا وكيف تضمن بقاءها وشرعيتها. أما بالنسبة للتحديد الفيبري للدولة فإن بورديو يقوم بالبناء عليه في محاولة لتطويره، فتعيين الدولة باعتبارها محتكرة للعنف الشرعي هو بمثابة الأساس الاجتماعي الأول للدولة والذي من شأنه أن يمنحها أحقّية فرض ما يسميه بورديو بمبادئ النظام العمومي الذي تقوم به مؤسسات الدولة وهياكلها المتعددة. ومن هنا يبدأ بورديو طرح فكرته الأساسية عن الدولة، مقدّما تعريفه الأولي الذي يقول "إن الدولة هي الاسم الذي نعطيه لمبادئ مضمرة للنظام الاجتماعي، لنشير به إلى ضرب من الإله الخفي أو الإله المستور، ولنشير في الحين ذاته إلى السيطرة المادية والرمزية في آن، وكذلك للعنفين المادي والرمزي" (1).

إن ما يقوم به بورديو في هذا التعريف إنما هو عملية توسيع لنطاق تعريف ماكس فيبر، وذلك بالحديث عن المبادئ المضمرة التي تؤسّس الدولة في أذهان الناس واعتقاداتهم، فالاعتقاد هو العنصر الأول من عناصر تشكيل الدولة، وهي بذلك لا تختلف عن الدين في شيء، لأنها تبني عند الناس إيمانًا بها باعتبارها التجسيد الأعلى لإرادتهم ومصالحهم. لذلك يعتبر بورديو استنادًا لفكرة دوركايم عن الدين بأن الدولة كالدين وهمٌ متين الأساس. أو قُل بأنها على الأقل تتمتع بخصائص الدين من حيث كونها تتَسم بامتلاك الحق في التعبير عن مصالح الناس وعن النموذج الاجتماعي الملائم لحياتهم وفوق ذلك تمتعها بممارسة العنف الشرعي ضدّ من يتمرّدون عليها، كما تمنح للفاعلين الناطقين باسمها "عن طريق فعل التعيين" صفة الرمزية والمعنوية.

سلطان الدولة يتغلغل في تفاصيل الحياة الشخصية للأفراد، ويُعتبر مثال الوقت الرسمي أنموذجًا لذلك

كما أن سلطان الدولة يتغلغل في تفاصيل الحياة الشخصية للأفراد، ويُعتبر مثال الوقت الرسمي أنموذجًا لذلك، بحيث يضبط "الجميع" أوقاتهم بإرادتهم تبعًا للزمان العمومي الخاص بالدولة ومأْسستِها له. وهذا ينقلنا إلى مستوى آخر من مستويات عناصر الدولة المفسرة لها من وجهة نظر بورديو وهي ما يسمى "النظام العمومي أو العام"، والخاصية الرئيسية لهذا المبدأ من مبادئ الدولة هي الرّضى، والنظام العمومي كما يقول بورديو "ليس مجرد البوليس والجيش، كما يوحي بذلك تعريف ماكس فيبر له، أي احتكار العنف المادي" (2)، وإنما هو كذلك التراتيب الرمزية التي تقيمها الدولة وتجعل الناس يرضون بها، كتسيير حياتهم وفق نمط معين على غرار وجود زمان عمومي يرضى الجميع به.

اقرأ/ي أيضًا: السلطة الذكورية على هيئة أغنية ناعمة

هذه الخاصية حسب بورديو لم توجد قبل الدولة وبيروقراطيتها. وههنا يحضر جانب من جوانب عنف الدولة الرمزي ومكانتها الاعتبارية. وهذا هو العنصر الثالث من عناصر فهم الدولة عند بورديو، وهنا يبرز إسهامه بشكل واضح عندما يتحدث عن أفعال الدولة ومقولاتها، حيث تشمل أفعال الدولة تعيين اللجان وتسمية المديرين وفوق ذلك تعيين المشكلات العمومية، وسلسلة الأفعال هذه حسب بورديو تختزل في تفاصيلها معنى الدولة، حيث تأخذ سلسلة الأفعال تلك طابع الشرعية والرسمية والاعتبارية دونما اعتراض من أحد وكأن الأمر مسلّم به، ووجهة النظر التي تقدمها تلك اللجان أو أولئك المسؤولين الذين تُعيّنهم الدولة – لمسْرَحَة عملها أمام العموم – تمتلك صفة فعل الدولة وبالتالي صفة الشرعية التي تتجاوز إطار المصلحة الخصوصية للتعبير عما هو عام وذلك على الرغم من كون من يقدمونها أشخاص ولهم مصالحهم الخاصّة، لكن بما أن الدولة هي من عيّنهم فهم يحوزون مباشرة على القيمة الاعتبارية التي تجعل أفعالهم بمنزلة فعل الدولة المجرد من أي مصلحة خاصة.

يركز بورديو على أفعال الدولة من أجل الإفلات من كينونة الدولة اللاهوتية المحفورة في بُنانا الذهنية، فأفعال الدولة "هي أفعال مأذونٌ بها ممهورة بسلطة، تحيل تدريجيًا بسلسلة من التفويضات المتتابعة إلى حيّز أخير وسبب أوّل – شأن إله أرسطو – هو الدولة" (3).

يركز بورديو على أفعال الدولة من أجل الإفلات من كينونة الدولة اللاهوتية المحفورة في بُنانا الذهنية

لكن ما يُثير الانتباه في هذه المعالجة السوسيولوجية لموضوع الدولة من طرف بورديو هو أنها في الحقيقة إنما تُعبّر عن الدولة كحقل إداري، حتى ولو ادّعت غير ذلك، فادّعاء بورديو أنه بتحليله لأفعال الدولة ومقولاتها إنما يكشف عن أسس نشوء الدولة في المجتمع وكيف تبني شرعيتها، هو في الحقيقة ادّعاء يسقط عند أوّل اختبار فعلي، أي عندما يخرج من دائرة الحقل الإداري الذي تبرز فيه الدولة إلى ما نسميه حياة الناس العادية، فليس التزام الناس بزمن عمومي هو بالضرورة تعبير عن تملّك الدولة لهم، كما أنه ليس كل من في الدولة هو ملزم بالزمن العمومي والذي هو في الحقيقة زمن إداري مخصوص يحاول بورديو جاهدًا أن يجعله عموميًا ليُثبت فرضيته الضمنية القائلة بتغلغل الدولة في كل تفاصيل حياة الأفراد والمجتمع، مزيلًا الحدود بينها وبين المجتمع المدني الذي يرى أن الدولة قد التهمت مجاله باعتباره مجالا للأفراد والفعل الحر، ولعلّ سطوة الدولة الفرنسية هي ما قاد بورديو إلى مثل هذا الادعاء الذي يريد تعميمه على حالة الدولة أيّا كانت. إلى حدّ أنه يُصرّح بأن الرهبة تتملكّه عند نطق كلمة الدولة، ومن أجل الخروج من تلك السطوة للدولة أصبح يستعير للحديث عنها أمثلة حياتية في المجال الإداري خاصة، كمعونة السكن ولجان التفتيش وصيغ العقود الرسمية ومن بينها الزواج الرسمي، جاعلًا من تاريخ الحقل الإداري تأريخًا لحقل الدولة، وهذا بحد ذاته إقرار بمحدودية الدولة التي يعتبرها بورديو تخترق كل المجالات وتتمظهر في كل شكل من العلاقات.

اقرأ/ي أيضًا: سياسة الهوية وأزمة الليبرالية: أطروحة فوكوياما ونقدها

هكذا إذًا فإن تحليل بورديو للدولة يستدعي من ناحية إسهامات النظرية السياسية في كل مراحلها محاولًا تجاوزها، وإن كان ما يفعله في الحقيقة إنما هو توسيعٌ فقط للفهم الفيبري للدولة كجهاز احتكار للعنف المشروع، وخاصة كجهاز إداري بيروقراطي، ومن ناحية أخرى حاول أن يتلمّس معنى الدولة وصور حضورها في حياة الناس من خلال أفعال الدولة التي تحيل إلى فاعلية المنطق الذي تقوم عليه، والمبني أساسا على عناصر الاعتقاد وأيديولوجية المصلحة العامة بكل مستوياتها.

 

هوامش

1- بيير بورديو، عن الدولة: دروس في الكوليج دو فرانس 1989 ـ 1992، ترجمة نصير مروة، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، 24.

2- بيير بورديو، مرجع سبق ذكره، 27.

3- بيير بورديو، عن الدولة، مرجع سبق ذكره، 31.