06-أكتوبر-2017

جمال سليمان مؤديًا صقر قريش

في سياق اللحظة العربية القائمة على الانهيار والتفكّك، بسبب سطوة الطغاة والطغيان لعقود طويلة، وما خلّفه ذلك من نتائج كارثية على كافة الصعد السياسية والمجتمعية والاقتصادية، تبدو مسلسلات الكاتب الفلسطيني وليد سيف، لا سيما ما عرف منها بـ"ثلاثية الأندلس"، التي أخرجها السوري حاتم علي: "صقر قريش" و"ربيع قرطبة" و"ملوك الطوائف".. مساحة لمعاينة هذه الشخصية ذات التأثير العميق في الحياة العربية، ماضيًا وحاضرًا، خصوصًا أنها شخصية مغلّفة بالصور النمطية أو الغموض.

عالجت مسلسلات "ثلاثية الأندلس" شخصية الدكتاتور العربي باقتدار كبير

في "صقر قريش"، ينجو عبد الرحمن بن معاوية، حفيد الخليفة الأموي العاشر هشام بن عبد الملك، من المذبحة العباسية الكبرى التي طالت كلّ أهله، ويهرب باتجاه الأندلس إيمانًا منه بنبوءة قديمة تقول إن ملك أمية سيزول في المشرق وسيعاد بناؤه في المغرب، ولأنّ أمه تنحدر من أصول أمازيغية، ما يعني أن الذهاب إلى أخواله سيشكّل ملجأً ودعمًا في آن.

اقرأ/ي أيضًا: وليد سيف.. 5 مسلسلات لا تفوّت

يصل الداخل بعد رحلة شاقة، حيث تكون الأندلس، التي دخلها المسلمون منذ قرابة نصف قرن، تعيش صراعًا سياسيًا ذا طابع قبليّ بين القيسية واليمانية، فيكون مجيئه نوعًا من الحل، لما في انحداره من سلالة الخلائف من إجماع عليه، الأمر الذي يجعله يتولّى حكم الجزيرة الإيبيرية بسهولة، فيبدأ بتأسيس دولته القوية.

يعرض مسلسل "صقر قريش" مسار شخصية عبد الرحمن الداخل (أداه باقتدار جمال سليمان)، على خلفية الصراعات في المشرق بين العباسيين وأبي مسلم الخرساني من جهة، وفي المغرب بين القبائل العربية على أحقية الإمارة بعد انهيار الخلافة الأموية وعدم الانضمام إلى الخلافة العباسية، وخلال ذلك يتحوّل الداخل إلى طاغية، نرى ذلك في تحوّله عن مخالطة الناس لكثرة أعدائه والثائرين عليه، فتبدأ تلك العزلة التي رافقتها انتصارات كثيرة بنقله إلى مستوى من الفظاظة والقسوة، واعتماد القوة والبطش كحلّ لكل المشاكل المستعصية، إلى درجة أنه في إحدى معاركه مع جيش أرسله العباسيون إلى الأندلس يقوم بقتل 7000 أسير، كما يقتل ابني أخويه اللذين فكرا في التمرّد عليه، وينفي أخاه هشامًا والد أحد الشابين المقتولين إلى المغرب، ثم تصل به الغطرسة إلى عزله بدرًا (أداء محمد مفتاح)، صاحبه ورفيق رحلته، وينفيه إلى منطقة الثغر الأعلى، شمالي بلاد الأندلس.

في مسلسل "صقر قريش" يبرّر الداخل سلوكه الاستبدادي بأنه طامح إلى كشروع كبير، لا يمكن تحقيقه بدون القوة والحزم. ولأجل هذا يجعل السيف أداة مشروعه. صحيح أنه سيحققه وسينشئ دولة لا نظير لها، إلا المسلسل يعرض لنا أن قدّم نموذجًا غاشمًا للحاكم، وكان طغيانه في طور التأسيس بذرة الضعف التي ستكبر وتنمو في من يتلوه من حكّام الأندلس، لا سيما من سيسيرون على نهجه.

نموذج آخر للدكتاتور يقدمه مسلسل "ربيع قرطبة"، الذي يروي لنا بدايات الدولة العامرية، وهي دولة داخل الدولة الأموية، أسّسها محمد بن أبي عامر المعافري (لعب دوره تيم حسن)، الذي يعرف في التاريخ بلقب "الملك المنصور"، أو "الحاجب المنصور".

استطاع المنصور من خلال سيطرته على الخليفة الطفل هشام المؤيد بالله، ابن الخليفة الحكم المستنصر بالله، أن ينتقل من مجرد مشرف على حسابات أرزاق ولي العهد إلى وصي عليه، بالتنسيق مع والدة الخليفة صبح البشكنجية، التي وقعت في غرام ابن أبي عامر، وساعدته في بادئ الأمر على الوصول إلى منصب حاجب الخليفة، لينحيها ويحجر عليها مع الخليفة في قصرهما، ويستفرد بإدارة مقاليد الأمور، وسيقدّم مجموعة سلوكات لا سابق لها في التاريخ الإسلامي، حيث يعيّن ابنه خليفةً له في الحجابة، ويسمّي نفسه ملكًا، مدعيًا أن الخليفة كلفه بذلك ليدير شؤون الدولة عنه بينما يتفرّغ للعبادة، وبناء عليه سيطبع اسمه على الوجه الآخر من العملة، واضعًا نفسه في مقام الخليفة، وسيأمر بأن يدعى له في المنابر.

يبطش المنصور بأعدائه أيما بطش، ويحبس الخليفة وأمه، ويقتل ابنه، وكذلك ابن عمه، ويتحوّل طالب العلم الذي جاء إلى قرطبة شابًا مليئًا بالطموح إلى وحش كاسر، لديه نظام مخابراتي يرصد كل تحركات الشعب، وسيطرة مطلقة على أحكام القضاة وقرارات الجيش، لكنه على المقلب الآخر ينجح في تأسيس دولة مزدهرة، تخضع ممالك الشمال الإسبانية وترغمها على دفع الأتاوات.

أسس الملك المنصور نظامًا أمنيًا مخابراتيًا في خلال حكم العرب للأندلس

بطش المنصور ولّد لديه أعداء كثرًا كانوا يتربضون به الدوائر، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء خلال حياته، وحين خلفه أبناؤه ما لبثت الدولة المركزية القوية أن انهارت في الأندلس، نتيجة الصراع الحاد الذي ولد في عهد أبي عامر، الأمر الذي جعل الولاة ينفصلون على قرطبة، ويعلنون مدنهم ممالك، وهو ما السبب المباشر لنشوء عصر مماليك الطوائف.

اقرأ/ي أيضًا: في حضرة العميد أسامة أنور عكاشة

أما مسلسل "ملوك الطوائف"، المكرّس لرصد مرحلة الضعف وانقلاب العرب من القوة إلى الضعف أمام الممالك الإسبانية، تظهر فيه شخصيات دكتاتورية عديدة، نراها تبالغ في العيش المرّفه وقهر الشعب، وتتسابق إلى نيل رضى ممالك الشمال بالإتاوات والهدايا والأعطيات. أكثر هذه الشخصيات بطشًا سيكون المعتضد بن عبّاد (قدمه أيمن زيدان في أداء بديع)، ملك إشبيلية، الذي يجمع المكر والخداع بالقوة والعنف، فمثلما لا يتوانى عن طعن ابنه البكر بخنجر، لن يتردد في تجريع السم بيديه لخصومه.

المفارقة الدرامية العجيبة أن ذلك الغول سيموت كمدًا من حزنه على موت ابنته، وسيتحوّل إلى كائن مليء بالمشاعر والحساسية.

نقتصر في هذه السطور على هذه النماذج من شخصيات الأعمال الثلاثة، على الرغم من كونها تحفل بالطغاة مشرقًا ومغربًا، وذلك لنصل إلى ثلاثة تبريرات مختلفة يقدمها كل واحد من هؤلاء الحكام في منطق ينطلق من واقع حاله، فالداخل يعلل بطشه وجوره بأنه في طور تأسيس، وبدون القوة سينهار حلمه، فيما يقوم ابن أبي عامر الذي حكم في فترة الازدهار بتفسير استبداده بأنه يريد الحفاظ على الاستقرار، أما دكتاتور فترة الضعف ابن عباد، فيرى طغيانه حماية للمُلك والمملكة من السقوط. فهل تختلف هذه التفسيرات الثلاث عما مضى إليه الطغاة اللاحقون، لا سيما في الزمن المعاصر؟

اقرأ/ي أيضًا:

أمير أمويّ في مستشفى هداسا

أفراح القبة.. الدراما المصرية تعود إلى الواجهة