08-أكتوبر-2021

معظم ضحايا الطائرات المسيّرة الأمريكية كانوا من المدنيين (Getty)

القصّة الأولى: قصّة غير نادرة في سيرة الدرونز الأمريكية، توجهّت طائرة مسيّرة إبّان الانسحاب الكبير من أفغانستان، للقضاء على هدف يعتقد أنه يتبع لتنظيم الدولة-ولاية خراسان، الذي أعلن مسؤوليته عن تفجير مطار كابول الدولي المزدوج، الذي أودى بحياة 13 عسكريًا أمريكيًا. ضربة الدرون تلك قتلت 10 مدنيين من عائلة واحدة، من بينهم سبعة أطفال. أمّا وزارة الدفاع الأمريكية، فأعلنت بعد تحقيق لنيويورك تايمز أنّ ذلك كان "خطأ مأساويًا"، وأنّ الشخص المستهدف في الضربة لم تربطه أية علاقة بتنظيمات إرهابية.

يصبح الجندي في حرب الدرونز مجرّد تقنيّ يتعامل مع بيانات مجرّدة وأرقام، على نحو تتضاءل معه احتمالات صحوة الضمير وتأنيبه، إلا بعد فوات الأوان

القصّة الثانية: بعد بضعة أيام من إتمام الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي أنهى احتلالًا عسكريًا امتدّ لعقدين ظهر في شوارع كابول رجل معمّم ذو لحية سوداء مهيبة، بكلاشينكوف معلّق على كتفه، يزور الأسواق ويخطب في الناس يوم الجمعة في جامع العاصمة الكبير. كان ذلك خليل الرحمن حقاني، أحد قادة طالبان البارزين في شبكة حقاني، التي تعدّ من أكثر الفصائل المتشدّدة في الحركة، والذي اختير في أيلول/سبتمبر الماضي وزيرًا  لشؤون اللاجئين في حكومة طالبان.

تندّر الكتّاب والمحلّلون على ذلك الظهور الاستعراضي لخليل حقاني، واعتبروه علامة إضافية من علامات الفشل الأمريكي الذريع في أفغانستان. لكن ما كان غائبًا عن كثيرين منهم، هو أنّ ظهور حقاني لا بدّ أن يكون "معجزة" حقيقية، وذلك لأن الولايات المتحدة قد أعلنت غير مرة خلال العقدين الماضيين أنّها قد قتلت الرجل عبر ضربات موجّهة بالطائرات المسيّرة.

لكن الأمر في حقيقته ليس "معجزة" بقدر ما هو "مهزلة" دمويّة تنال من سمعة المسيّرات الأمريكية وكفاءتها، كما أنها تطرح سؤالًا ضمنيًا يفترض أن يكون مهمًا: إن لم يكن حقاني قد قتل في تلك الضربات جميعًا، فمن الذي قُتل إذن؟ جزء من الجواب يكمن في أن تفجير مطار كابول في آب/أغسطس الماضي، قد قتل أكثر من 170 مدنيًا أفغانيًا، لم يعبأ بقصصهم أحد.

الإجابة الباردة المعتادة هو أن القتلى "إرهابيون"، وهي إجابة بلغت في شيوعها والتساهل في تقديمها حدًا مؤسساتيًا في الإدارة الأمريكية على أعلى المستويات. لكن الحادثة أعلاه بشأن العائلة التي قصفتها الطائرة المسيّرة، والأطفال السبعة الذين قضوا في الهجوم، تثبت أنها في كثير من الأحيان ليست إجابة صحيحة، وأنها ليست سوى غطاء على الفشل الأمريكي والتورّط العميق في دماء المدنيين الأفغان وغيرهم، في هذه الضربة "الأخيرة"، والعديد من الضربات التي سبقتها في مناطق نائية يتعذّر على الصحفيين والناشطين الوصول إليها. 

سامية أحمدي، قتل والدُها وخطيبُها في الهجوم الأمريكي (نيويورك تايمز)

فالضربة التي نفذها الجيش الأمريكي عقب تفجير مطار كابول استهدفت الشخص الخطأ، ولكن هذه المرّة في قلب العاصمة، حيث الصحفيون والمحققون، الذي تسنّت لهم فرصة نادرة بفحص ادعاءات البنتاغون، والوقوف على أثر الضربة الوحشية، التي أودت بحياة كل أولئك المدنيين الأبرياء. فقد شارك الإعلام المحلي الأفغاني، ووسائل إعلام غربيّة، في فضح همجيّة تلك الضربة بالطائرة المسيّرة، وأنّها بخلاف ما تدّعي القيادة العسكرية الأمريكية، قد كانت ضربة يبدو أنها انتقامية ومتسرّعة، وغير مستندة إلى معلومات استخبارية دقيقة. كما كان لوسائل التواصل الاجتماعي دورٌ في تسليط الضوء على ما حصل، فتحدث أقرباء الضحايا وأصدقاؤهم عن حجم الجريمة الحاصلة، وأكدوا جميعًا أن السيارة التي قصفت لا علاقة لها بأي تنظيم مسلّح. وبعد التحقيق الموسّع من نيويورك تايمز، الذي تتبّع حركة الهدف وأنشطته قبل الهجوم ولحطتها، تبيّن أن الهدف خاطئ، واضطرت وزارة الدفاع الأمريكية إلى الاعتراف بأن الضربة قد قتلت مدنيين أبرياء لا صلة لهم بتنظيم الدولة.

المفارقة هي أن هذه الضربة التي توصف بالأخيرة للجيش الأمريكي في أفغانستان، لم تختلف كثيرًا عن ضربتها العنيفة الأولى هناك.

ففي 7 تشرين الأول/أكتوبر 2001، غزت الولايات المتحدة وحلفاؤها أفغانستان بهدف القضاء على حركة طالبان. حصلت في ذلك اليوم أيضًا أول ضربة مسجّلة في التاريخ بطائرة مسيّرة. المكان هو قندهار، التي اتخذتها طالبان عاصمة لها. السلاح كان طائرة "بريداتور" مسيّرة في أول طلعاتها غير التدريبية. الهدف هو منزل الملا محمد عمر، زعيم طالبان. ضغط المسيّرون من بعد على زرّ الإطلاق لصاروخين من طراز "هيلفاير"، مستهدفين مجموعة من الرجال بلحى وعمائم. أما النتيجة، فهي أن تلك الثلّة من الناس لم يكونوا من طالبان، وليس بينهم الملا عمر، الذي ظلّ في مأمن من الاستهداف الأمريكي إلى أن توفّي بعد انتهاء أجله، وفاة طبيعية في مخبأ له على بعد أميال معدودة عن قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة. أما الضحايا، فكانوا مثل ضحايا العملية الأخيرة، مدنيون من النساء والأطفال والشيوخ والرجال.

معظم ضحايا الضربات بالمسيّرات الأمريكية من المدنيين (Getty)

ليزا لينغ، مسؤولة تقنية سابقة في الجيش الأمريكي مختصة بالعمل مع الطائرات المسيّرة، تقول في حديث مع مجلة MIT Technology Review: "الحقيقة هي أننا في كثير من الأحيان لم نمتلك المقدرة على التمييز بين المسلحين والمزارعين والنساء والأطفال. هذا النوع من الحرب مشين على مستويات عديدة".

آلاف الضحايا.. والضمير مرتاح

في كتابه المهم عن صناعة العدو، أضاف بيار كونيسا عنوانًا فرعيًا لافتًا: كيف تقتل بضمير مرتاح، بحث فيه معمقًا عن فكرة العدو وشرعنة قتل "المختلف" عبر حيونته، مع ترسيخ صورة رهيبة عن "عدالة" القويّ وأخلاقيّته. ولم يتقن هذه اللعبة دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي امتلكت لحظة ذهبية فارقة لصياغة سرديّة حربها ومنطق عدالتها بعد هجمات 11 سبتمبر، للاستهلاك المحليّ والعالمي، مستفيدة من اتساع المسافة بين القاتل والمقتول، بفضل الطائرة المسيّرة التي دخلت الخدمة منذ 2001، وصارت الوسيط منزوع الضمير لفعل القتل، حيث يصبح الجندي مجرّد تقنيّ يتعامل مع بيانات مجرّدة وأرقام، على نحو تتضاءل معه احتمالات صحوة الضمير وتأنيبه، إلا بعد فوات الأوان.

اقرأ/ي أيضًا: تريد أن تقتل بضمير مرتاح؟ بيار كونيسا يجيبك

فخلال عشرة أعوام، بين عامي 2004 و2014، قتلت المسيرات الأمريكية أكثر من 1،100 شخص في باكستان واليمن، في عمليات سعت إلى "تحييد" 41 هدفًا، وذلك وفق الأرقام التي كشفت عنها منظمة "ريبريف" (Reprieve) البريطانية لحقوق الإنسان. معظم تلك الأهداف ما تزال على قيد الحياة، مثل خليل حقاني، والظواهري، والذين دفع ثمن السعي وراء تصفيتهم بالطائرات المسيّرة آلافُ الأبرياء. وقد كشف تحقيق أجراه مكتب الصحافة الاستقصائية في لندن عام 2014، أن 4 بالمئة فقط من ضحايا الهجمات بالطائرات المسيّرة الأمريكية في باكستان كانوا من المسلحين المرتبطين بتنظيم القاعدة، كما بيّن التحقيق أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نفسها، والتي تولت المسؤولية عن تلك الضربات في باكستان، لم تكن تميّز انتماءات جميع الأهداف التي يجري تصفيتها باستخدام المسيّرات، وبحسب التقرير، فإن الوكالة وضعت مئات أولئك القتلى في تصنيفات عامة مبهمة، باعتبار أنهم مجرد "مقاتلون من باكستان أو أفغانستان"، أو "غير معروفين"، كما أوضح التقرير.  

رغم ذلك كلّه، ما تزال الإدارة الأمريكية تتعامل بإيمان أعمى مع التقنية الحربية في الطائرات المسيّرة، وهو عمىً تفشّى في العالم اليوم، مع انتشار حمّى الدرونز والسباق المحموم على تطويرها وتبييض سمعتها والاستثمار في الشركات المصنّعة لها، حتى انتقلت عدواها من الدول إلى الجماعات المسلّحة، كجماعة الحوثي في اليمن، وحتى حركة طالبان في أفغانستان، والتي لجأت في الآونة الأخيرة إلى مسيّرات تجارية معدّلة لمهاجمة أهدافها.

ما تزال الإدارة الأمريكية تتعامل بإيمان أعمى مع التقنية الحربية في الطائرات المسيّرة، وهو عمىً تفشّى في العالم اليوم، مع انتشار حمّى الدرونز والسباق المحموم على تطويرها وتضخيم قدرتها التدميرية 

لكن ليس لطالبان ولا سواها من المصادر والقدرات التقنية ما هو متوفر لدى الآلة العسكرية الأمريكية، التي تدعمها شبكة عالمية مختصة بالاغتيالات، وليس لدى أي دولة ولا تنظيم قاعدة مثل قاعدة "رامستاين" الجوية في ألمانيا، والتي توصف بأنها "شريان حرب المسيّرات" التي تخوضها الولايات المتحدة، وهي الحرب التي تبيّن أدلّة متراكمة وتسريبات داخلية، كتلك التسريبات التي فضحها دانيال هيل، المحلل الاستخباري السابق، بأن معظم ضحاياها كانوا من المدنيين.  

 

 

 

 


*التقرير اعتمد بشكل أساسي على معلومات من تقرير نشر في مجلة MIT Technology Review وموقع The Intercept الأمريكي. 

اقرأ/ي أيضًا: 

البنتاغون: الغارة التي قتلت 10 مدنيين في أفغانستان كانت خطأ "مأساويًا"

ملف خاص |أفغانستان: مستقبل قلق بعد عقدين من الاحتلال الأمريكي