29-يونيو-2018

من مسلسل الوصية

وسط مناخ قاتم وكئيب تحوم فيه كل أسباب التعاسة، حلّ شهر رمضان على المصريين مضيفًا أعباء جديدة على كاهل الكثيرين منهم، خصوصًا مع الوضع الاقتصادي الصعب الذي وضعتهم فيه الحكومة ووصفات "الإصلاح الاقتصادي" إياه الذي يحجز لنفسه مكانًا في أي جملة تبريرية لأي مسؤول مصري، يحاول عبثًا تقديم أسباب للهبوط الحاد الذي أصاب قيمة الجنيه المصري ومن قبله المواطن المصري.

ما الذي يمكن أن يستفيده المتفرج أو يُضاف إلى يومه إذا ما قذفت به الأقدار ليشاهد إحدى حلقات مسلسل مثل "30 ليلة وليلة"؟

رغم ذلك، وكما هو معروف عن المصريين تحويلهم مآسيهم وهمومهم اليومية والدائمة إلى نواة لخلق حالة كوميدية يستعينون بها على تمرير أيامهم، أو ربما تحويل انتباههم إلى ما يشغل بالهم عن مشاكلهم؛ حفل الموسم الدرامي الرمضاني بالعديد من المسلسلات "الكوميدية" التي كان من المفترض بها تقديم تسلية خفيفة تلطّف من آثار الأجواء الحارة والقرارات الاقتصادية وموجات ارتفاع الأسعار. لكن هذه المسلسلات، رغم التعامل معها دائمًا بكثير من التسامح والتجاوز الفني من قبل المشاهدين، لم تكن أبدًا على المستوى المطلوب ولم يستطع أغلبها لفت الانتباه أو تأمين مشاهدات ضخمة على القنوات بفرعيها التلفزيوني والإنترنتي، على غزارتها ووفرة نجومها، الأمر الذي يفتح الباب لتساؤلات حول أسباب هذا التراجع في جودة الكوميديا المصرية، وأسباب انصراف المشاهدين أنفسهم عن منتَج ترفيهي يٌفترض به تسليتهم، إذا ما أحسنا الظن، أو إلهاؤهم، على الأرجح.

اقرأ/ي أيضًا: هل خيبت الدراما العربية أملك؟ إليك 6 مسلسلات أجنبية لرمضان

تسعة أعمال وُصفت بالكوميدية توزّعت برمجتها على الشاشات المصرية، وبعضها لم يسمع به أحد لفرط فقرها الإنتاجي ورداءة محتواها وافتقادها لكل ما من شأنه حمل المتفرج على مواصلة حلقة واحدة منها. "ربع رومي"، "سك على اخواتك"، "عزمي وأشجان"، "الوصية"، "خفة يد"، "30 ليلة وليلة"، "واكلينها والعة"، "أحلام مراتي"، "شوقية".. مسلسلات أغلبها ضاع وسط زحمة الأعمال الدرامية التي قدّمتها الشاشات المصرية في الموسم الرمضاني، لكنها أيضًا مثلّت منطلقًا موضوعيًا للبحث عن تفسيرات ممكنة لهذه الملايين التي نسمع بها ويتقاضاها الممثلون من أجل تقديم "أشياء" مُصوَّرة لا تصمد أمام اختبار المشاهدة الثانية، أو ربما المشاهدة الأولى.

 ما الذي يمكن أن يستفيده المتفرج أو يُضاف إلى يومه إذا ما قذفت به الأقدار ليشاهد إحدى حلقات مسلسل مثل "30 ليلة وليلة"، سوى أن يكون عليه اختبار تحمُّل كمية غير طبيعية من التهريج الرديء ومتابعة سيناريو بالغ السخافة وثقل دم لا يُطاق من بطليه سعد الصغير وشيماء سيف، كل هذه معطوفًا على إنتاج رخيص للغاية، يجعل الأمر كله كما لو كان عملية فاشلة لغسيل أموال المُنتِج.

لحسن الحظ، أو لسوئه، ليست بقية الأعمال "الكوميدية" على هذا القدر من "اللاشيء"، لكن يجمعها خيط ناظم من حيث اشتراكها في تغليب كوميديا "الإفيه" اللفظي، بعدما صار مستحيلًا وجود أي عمل كوميدي مصري يعتمد الموقف والبناء الكوميدي أساسًا لإثارة الضحك. بالاعتماد على "الإفيه" وحده، مجاراةً للسيل الميديوي والإلكتروني في استنساخ وحلب السخرية؛ يصبح الهمّ الشاغل لكتاب الكوميديا صناعة ورصّ ورصف أكبر قدر من الإفيهات المتلاحقة، في أسلوب بائس يشبه كثيرًا الضربات الاقتصادية التي لا يتوانى النظام المصري عن ملاحقة المواطنين بها من أجل إفقادهم الوعي نهائيًا بدعوى "الإصلاح".

الاستسخاف والاستخفاف والاستظراف واستحلاب الإفيهات اللفظية والنكات المنقولة من بوستات "فيس بوك" جماهيرية، لا تصنع كوميديا، فضلًا عن أن صناعة 30 حلقة تلفزيونية (وهو القالب المقدس المعتمد) تحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك المجهود الكسول. إثارة الضحك، هي عملية، وإن كانت نسبية، تلتزم شروطًا محددة ومعروفة منذ أرسطو وكُتّاب الكوميديا الإغريق، والإضحاك نفسه هدف نبيل في حد ذاته له وسائله التي تؤدي إليه وتصنعه ولا تنفصل عنه أبدًا.

الكوميديا تربية للأحاسيس الجمالية والقدرات النقدية عند الجمهور، وعلى مَن يكتبها أن يفهم عمق الضرورات الفنية التي تخلقها

يقول موليير الأب الشرعي للكوميديا ديلارتي، إن الكوميديا تربية للأحاسيس الجمالية والقدرات النقدية عند الجمهور، وعلى مَن يكتبها أن يفهم عمق الضرورات الفنية التي تخلقها ويعلم تطورها عبر التاريخ ويدرك جيدًا دورها في حياة الناس والمجتمع. لكن الحال البائس للكوميديا المصرية وعشوائيتها المتوالدة أبعد ما يكون عن كلام موليير، رغم حضور اسمه على ألسنة بعض مؤلفي الكوميديا المصريين في تبريرهم لما يقدّموه، بل والتنظير له باعتباره "ضحكًا من أجل الضحك". وإذا كانت كوميديا الفارص، في أدنى مستوياتها، تثير الضحك على ما تتضمنه من مواقف قائمة على التهريج والسخرية والعرض والارتجال لنماذج وشخصيات يذهبون إلى أبعد من الكوميديا وصولًا إلى المهزلة والعبث الإنساني والسلوكي، فحتى هذه الأمور تتطلب حدّا أدنى من الاعتماد على المواقف الكوميدية ورسم الشخصيات بطريقة مثيرة للضحك وبقدرة على توليد وتطوير مواقف قادرة على جذب المشاهد والحفاظ على تتبعه على أمل أن يرى تطورًا جديدا يطرأ على الأحداث عبر ثلاثين حلقة.

اقرأ/ي أيضًا: "الهيبة العودة".. هل تكون آلة الزمن طوق نجاة الـ"ما بعد أكشن"؟

كل هذه أمور غابت عن مسلسلات رمضان "الكوميدية"، فغاب الضحك تقريبًا إلا في لحظات نادرة برقت بين موجات التساخف وقصف الجبهات والاستظراف. ليبقى الناتج الأكيد من هذا الموسم، إبانته ذلك النقص الحاد في معدلات الابتكار لدى مؤلفي الكوميديا المصريين، فليس بغزارة الأعمال وحدها تحضر الضحكات على الوجوه، لأن الوفرة، كما نعلم جميعًا، ليست دليلًا على الجودة.

اقرأ/ي أيضًا:

هل هنالك فرق حقًّا بين "غرابيب سود" و"السهام المارقة"؟

وهيبة باعلي.. تجسّد رغبة الصحراء الجزائرية في التمسرح