29-مايو-2020

من المسلسل

عندما ظهر الفيلم الوثائقي "فن المزود" للمخرجة سنية الشامخي سنة 2010، كتبت مقالًا عن الفيلم بعنوان "وثائقي عن فن المزود: سقوط فن الهامش في المركز"، ورأيت أن المخرجة فوتت على نفسها كنزًا كبيرًا ببقاء الفيلم خارج هذا الفن الشعبي الوحشي، وأشرت في المقال إلى أننا يمكن أن نقرأ تاريخ تونس كاملًا من خلال تقصي تاريخ تحولات فن المزود.

يعتمد مسلسل "نوبة" تقنية الدمى الروسية، حكايات صغيرة داخل حكايات أصغر، تتشابه وتتعالق وتتصارع، داخل حكاية كبرى اسمها حكاية السلطة في تونس

مرت سنوات عشر أخرى ليظهر مسلسل "نوبة" للمخرج عبد الحميد بوشناق ليجيب عن بعض تلك الأسئلة التي ظلت معلقة في مقال الفيلم: "كيف كان المزود الصوت السياسي لمن لا صوت لهم؟ وهل الحرية التي أعطيت لفن المزود وحضوره الحر في الإعلام المرئي والمسموع منذ بداية التسعينيات خدم المزود فعلًا؟ ما هو الفرق بين مزود الثمانينات الممنوع ومزود اليوم؟ كيف جنّدت السلطة هذا الفن ونجومه لصالحها وأفقدته بذلك خصوصيته كفن شعبي يعكس تمرّد الطبقة المسحوقة وأحلامها؟ كيف نفسّر إذًا الحضور الكبير للمزود في الحفلات ذات الصبغة السياسية أو التعبوية؟ هل يعني أن المزود تخلّى عن المقموعين والمسحوقين والفقراء ودخل منطقة التزلّف السياسي؟".

اقرأ/ي أيضًا: الدراما العربية في ذكرى النكبة.. من "التغريبة الفلسطينية" إلى "صفقة القرن"!

فن الهامش والمعالجة الدرامية

ولد المزود في منطقة ضديدة لمجال السلطة، فضاء الفتوات التي تنافس السلطة نفسها؛ البوليس في فرض النظام، ولذلك كان النظام لها بالمرصاد لأن السلطة تأبى التعدد والتشتت. كان بورقيبة يطارد المزاودية ويمنعهم من الظهور الإعلامي ويزج بهم في السجون لأنهم يحملون خطابًا مضادًا لخطاب التسبيح. كانوا ينوحون ويتوجعون أكثر من اللازم وهذا لا يروق للسلطة، تسعى السلطة دائمًا لإنتاج الألم لكنها ترفض التغني به. لا يجب أن يتحول الوجع إلى غناء لأنه بذلك يتحوّل إلى خطر كما تحوّل الجاز إلى قوة على ألسنة السود وحررهم قبل أن تحررهم من الأصفاد والقيود، فالمجاهرة بالأوجاع وتحمّلها بداية التحرر.

هذا الصراع بين السلطة وبين المزاودية نقله مسلسل "نوبة" بذكاء عندما رفع عنهم الحجاب وأخرجهم من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل فقد ظلوا في الذاكرة ككائنات غير واقعية، مجهولين برتبة نجوم يظهرون في الحفلات ويختفون. تسمع عنهم ولا تراهم، محاطين بسير أسطورية بعضها يرفعهم إلى مستوى الأبطال، وبعضها ينحط بهم إلى مستوى الشذاذ والمجرمين.

"نوبة" مسلسل يستدعي كل ذلك معتمدًا تقنية الدمى الروسية حكايات صغيرة داخل حكايات أصغر تتشابه وتتعالق وتتصارع، داخل حكاية كبرى اسمها حكاية السلطة في تونس.

كاميرا الأندرغراوند أو كاميرا بوشناق المتوحشة

الكاميرا في مسلسل "نوبة" من جنس العمل نفسه لملمت وجهها من وجه برينغا الفتوة، ومن براداريس المجرم وتاجر المخدرات، ومن نجوى امرأة الغواية صاحبة الملهى الليلي المعاصر، ومن جنون وهبل بعض الشخصيات، هي وحشية من وحشيتها وناعمة من نعومتها.

يكسر عبد الحميد بوشناق أفق انتظار المشاهد فتطل الكاميرا من أماكن غير متوقعة؛ من فوق الأكتاف وشقوق المنازل ومن بين الأقدام، لا تعترف كاميرا بوشناق بالكادراج التقليدي بل جاءت لتقوّضه وتربكه فهو الوجه الآخر للسيستم الذي تسعى للتصدي له وتعنيفه؛ دستور الإخراج.

العنف الذي يبدو لنا في حركة الكاميرا وفي تصوير مشاهد لا يتأتى من الأحداث بقدر ما يأتي من إحساسنا بها، فالقتل الذي يظهر بشكل سريع في الأفلام والأعمال الدرامية ليس واقعيًا لأن الموت ثقيل والإنسان لا يموت بسهولة، لذلك يثقل بوشناق مشاهد القتل ويطيلها في محاكاة لوحشية الجريمة نفسها وللبحث عن تصوير الألم، فالغاية ليست سرد حدث القتل بل تصوير العنف والوجع والألم، وهل من شيء ألصق بحياة المهمشين من الوجع، أو "الوجيعة" الكلمة التونسية الأكثر ترددًا على الألسنة. فبرينغا عندما رفع رأسه وهو مكبل على الأرض ليذكّر "حبيبة" أمام جماعتها بأنه من اغتصبها وجعلها تحمل منه غصبًا كان يحاول بالكلمات الجارحة أن يقاوم في معركته الأخيرة قبل أن تأمر حبيبة رجالها باغتصابه.

في مسلسل "النوبة"، تسلل عبد الحميد بوشناق بذكاء وورط المشاهد في متابعة مسلسل سياسي تاريخي

تحاول الشخصية الدرامية الدفاع عن نفسها بإلحاق الأذى بالآخر وشطبه بالكلمة؛ الكلمة الجارحة. بعد أن جردت من سلاحها.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "سوق الحرير".. الشام المُتَخَيّلة مرة أخرى

في الفضاء الشعبي الذي تدور فيه الأحداث يصبح كل شيء فيه جارح ومؤذٍ كالسكاكين والمطاوي والمسدسات والألسنة وحتى الجمال.

السياسي في النوبة

يتناول المسلسل في جزئه الثاني فترة مهمة من تاريخ تونس الحديث وهي فترة التسعينات بعد انقلاب بن علي على بورقيبة، وهي فترة الصراع على السلطة بين سلطة بوليسية انقلابية ناشئة وتيارات سياسية ودينية تتغلغل في الأحياء الشعبية، وعائلة زوجة الرئيس تستغل كل ذلك لتؤسس لملامح دولة مافيوزية جديدة في مواجهة شقيق الرئيس الذي صفته بعد ذلك المافيا. كل ذلك والمجتمع التونسي يتحول من ثقافة الفن الشعبي إلى ثقافة الكباريه ويفقد ملامحه تدريجيًا لصالح الغزو الشرقي.

ينتهي المسلسل مع انتصار الهامشي؛ المزاودية واتباعهم على سيدة الكباريه بعد أن فقدت السند السياسي إثر اغتيال شقيق الرئيس واستلاء أصهاره على المشهد وجاؤوا بالمزاودية إلى الكباريه. غير أن ذلك الوصول كان مسربلًا بالدم. وهكذا اتضح أن الجزء الثالث القادم سيكون قسم الكوريدا بعملية إذلال الثور وترويضه بالرماح عبر تحويل المزود من فن معارض للسلطة إلى خادم ذليل لها. فقد أصبح أصهار الرئيس يتحكمون فيه.

إن الفترة الموالية لسقوط المزود، التي يعد بها المسلسل، هي أخطر الفترات التي عاشتها تونس في تاريخها الحديث حيث شُيِّد نظام بن علي على شطب العقول بالتوازي مع شطب الوجوه عبر إغراق البلاد في أنغام مزود بأغان فارغة المحتوى وبوجوه ناعمة، وأخرى مدجنة لإحياء حفلات رجال الأمن. وهكذا يكون بوشناق تسلل إلى السياسي بذكاء وورط المشاهد في متابعة مسلسل سياسي تاريخي دون أن يتهيأ لذلك، ولذلك سيكون الجزء الثالث إن أنجز رهانًا حقيقياً لأنه يلامس ماضيًا قريب لا يزال صنّاعه أحياء وبعضهم عاد مع عودة السيستم إلى السلطة.

كما أن سقوط المزود سيجعل فنًّا آخر ينشأ من هامشه ويرثه وهو الراب، وهذا ما بشّر به المسلسل من خلال حضور فنان الراب كافون دون أن يكون منتجًا لخطاب، لكن حضوره كان يوحي بالحضور القوي في الجزء الثالث، ويذكر المتابع العربي تزامن سقوط بن علي مع علو صوت الراب في تونس، حتى أن أغنية الجنرال كانت واحدة من الأغاني الشهيرة في آخر أيام بن علي، وذكرتنا أخبار القبض على مغني الراب بأخبار اعتقال المزاودية في عهد بورقيبة.

نوبة" عمل درامي رائد يشرّح ذهنية التونسي وتاريخ تونس الحديث من نافذة مهملة ومؤثرة في آن

وقّع المسلسل أيضًا في نهاية جزئه الثاني على نهاية عصر الباندية، الأبضايات والفتوات مع انهيار برينغا وتحوله إلى معتوه بعد أن انتهك جسد ووذلت فحولته ليبدأ عصر الزعران أو "الخلايق والفصايل" باللهجة التونسية وهم المجرمون حاملو الأوشام والندوب والأسلحة البيضاء والذين يطعنون بلا رحمة ويدينون بالولاء للسلطة والبوليس. فمانيفاست الفتوة هو ما كان يردده آخر فتوة العصر الحديث علي شورب "أنا الحاكم منستعرفش به" على عكس الخليقة المجرم الذي لا يعترف إلا بالبوليس.

اقرأ/ي أيضًا: Unorthodox.. دراما نتفليكس في خدمة "إسرائيل"

"نوبة" عمل درامي رائد قدم لنا فنانًا شابًا صاحب طرح جمالي جديد وعين جديدة على الدراما التونسية. مسلسل يشرّح ذهنية التونسي وتاريخ تونس الحديث من نافذة مهملة ومؤثرة في آن، الفن الصاخب الذي يحرك أجساد وأرواح كل الطبقات والمنكر واللامفكر فيه والمنحط في آن: المزود. ويبقى السؤال ما الذي أراد بوشناق قوله من خلال استعادة عوالم فن المزود هل كل هدفه كتابة التاريخ وحفظ الذاكرة أم سنشاهد في الجزء الثالث ما به يرتقي العمل الدرامي التاريخي ليكون وسيلة لقراءة الراهن السياسي والثقافي ولم لا المستقبل؟

اقرأ/ي أيضًا:

المسلسل السعودي "مخرج 7".. لماذا كل هذا الحقد على فلسطين؟

دراما البروباغندا العربية من النجاعة إلى المسخرة