30-مارس-2025
مسلسل لام شمسية

مسلسل لام شمسية (مواقع التواصل)

من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، يقول محمود درويش. والسؤال الذي تطرحه هذه العبارة على الشاشة العربية اليوم يبدو أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى: هل تكتب الشاشة حكايتنا؟

ومن هذه السؤال يمكننا أن ننطلق إلى أسئلة أخرى: هل نملك، كجماعات ممزّقة تحت وطأة القمع والتشظي والمنفى، الحق في تمثيل أنفسنا؟ أم أن هذا الحق مسلوب، مؤمم لصالح سلطة لا ترى، أو سوق لا يسمع، أو منصّة لا تُنصت إلّا لما هو قابل للتصدير؟

في موسم رمضان 2025، لم تكن المشكلة في تفاوت جودة الإنتاجات، ولا في صعود وجوه جديدة أو اختفاء أخرى، إنما كانت في ما يتجاوز الشكل والمحتوى ليصل إلى العمق الثقافي والوجودي الذي يُلازم البلدان في لحظات التحوّل: من يروي قصتنا، وبأي لغة، ولأي غاية؟

بدا هذا الموسم مثل مرآة مكسورة تعكس أجزاءً مبتورة من الواقع، وتخفي البقية خلف ضباب كثيف من التهذيب والتسويق والرقابة.

حين أصبحت السلطة كلها بيد المنصّة، لا بيد الفنان الذي يُجسّد، ولا الكاتب الذي يصنع العوالم، صار الهدف هو ملاحقة "الترند"، لا اكتشاف الحقيقة أو تقديم رؤية جديدة

في زمن تُعاد فيه كتابة التاريخ على وقع الحرب والتهجير والانهيار، واستشراء الشعبوية في العالم، تبدو الشاشة عاجزة عن مجاراة التحولات الكبرى. فالدراما التي كنّا نراها امتدادًا لذاكرتنا الجمعية، أصبحت في كثير من الأحيان ستارًا سميكًا يحجب عنا صورة العالم.

تريد السلطة دراما "مهذبة" تُعيد إنتاج القيم الرسمية دون مساءلتها، ويطلب السوق دراما سريعة، قابلة للتسويق، خفيفة على البنية الاجتماعية والسياسية، وتفضّل المنصات أعمالًا مختصرة، قابلة للتكرار، منفصلة عن الأرض والناس. وفي خضم هذا كله، يُقصى الواقع الحقيقي: المدن التي تعرض للقصف، واللاجئون، والمهمّشون في الطبقات المنسية. كل هؤلاء يتم تغييبهم أو اختزالهم في شخصيات سطحية، وكأن الناس الحقيقيين لا يصلحون لأن يكونوا أبطالًا.

ولعل الدراما اللبنانية أكبر مثال على التغييب المفروض، فقضايا مثل سرقة ودائع الناس في المصارف وغياب الكهرباء والقدرة على تأمين الدواء والاستشفاء ومأساة اللاجئين السوريين التي غيرت شكل البلد، كلها لاتجد لها راويًا واحدًا في الانتاج الدرامي.

رغم كل ذلك شهد رمضان 2025 بعض المحاولات الجريئة: "لام شمسية" المصري، و"البطل" السوري، ففي الأول لم يكن التحرّش بالأطفال مجرّد حبكة صادمة، بل بوابة لطرح سؤال أوسع: من يحمي الطفولة حين تكون العائلة نفسها جزءًا من العنف؟ وفي الثاني، نذهب إلى الريف السوري، لا بصورته الحالمة، بل كمكان متآكل، يعيش سكانه على حافة الكرامة والجوع حتى تأتي لحظة سقوط دكتاتورية الأسد.

لكن مثل هذه الأعمال، رغم صدقها، تبقى محاصرة. لا لأن المشاهد لا يريدها، بل لأن النظام الإنتاجي العربي لا يحتمل الأعمال التي تزعزع ما هو قار ومستقر، وتطلب من المشاهد أن يشعر ويفكر، لا أن يستهلك وحسب!

في كتابه "تقسيم الحسيّ" (Le Partage du Sensible)، يرى جاك رانسير أن السياسة ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي أولًا صراع على من يُسمَح له بأن يُرى ويُسمَع داخل المجال العام. وضمن هذه الخلطة، فإن الفن ليس محايدًا أو جماليًا فقط، بل هو جزء من "التقسيم" المقرر، لأنه يُحدد من يملك الحق في الظهور، ومن يُقصى إلى العتمة.

ووفقًا لرانسير، فإن التمثيل الفني هو فعل سياسي بامتياز، لأنه يرسم خرائط الحضور والغياب، ويعيد إنتاج التراتبيات الرمزية داخل المجتمع. ولهذا يغدو تغييب القضايا عن الشاشة، أو تقديمها في صور مشوّهة أو كاريكاتورية، خيار سياسي ينتمي إلى من يملك قرار عرض الحكاية.

الدراما التي لا تُنصت لما يحدث في الأزقة والمخيمات وسجون الأنظمة، تتحول إلى ملصق دعائي للسلطة، لا إلى مرآة للمجتمع. وحين تُستبدل وجوه الصفوف الخلفية بنسخ معقمة من الطبقة المريحة، فإننا لا نخسر تمثيلهم فقط، بل نخسر قدرتنا على فهم أنفسنا كمجتمع جريح، متنوع، ومتغير.

وحين أصبحت السلطة كلها بيد المنصّة، لا بيد الفنان الذي يُجسّد، ولا الكاتب الذي يصنع العوالم، صار الهدف هو ملاحقة "الترند"، لا اكتشاف الحقيقة أو تقديم رؤية جديدة. الدراما لم تعد تُبنى من الداخل، من حاجة الإنسان إلى الحكي، بل من الخارج، من ضغط الأرقام، وتعليمات الخوارزميات، وما يصلح للتسويق السريع. وفي هذا السياق، فقدت الدراما العربية براءتها، وتحوّلت إلى أداة سيطرة ناعمة، تتفادى مواجهة الأسئلة الصعبة، وتتهرّب من التمثيل الصادق للفئات المهمّشة، ولا هم لها سوى أن تنخرط في ترسيخ الواقع الذي تريده السلطة.

اللافت أيضًا أنه مع تطور التقنية البصرية وتحسن جودة الصورة والصوت، سواء في أجهزتنا المنزلية أو في أدوات الإخراج، يُستخدم هذا التقدم لسد الفجوات التي تفرضها قيود السلطة والضرورات التسويقية على القصة ذاتها. وكأننا نشهد تحققًا لرؤية هايدغر حول التقنية، حيث يتم اختزال كل شيء، بما في ذلك الإنسان، إلى مجرد موارد تُوظَّف للاستخدام بدلاً من أن تُقدَّر في ذاتها كوجود مستقل.

وفي نهاية موسم رمضان 2025، كثير من المسلسلات لم يُعبّر عن مجتمعاتها، وصنع واقعًا سهل الهضم، رغم أنه منفصل عن التجربة الحقيقية للناس، ولهذا حين نعود إلى فكرة درويش حول من كتابة الحكاية نكتشف أن شاشة هذا الموسم لم تكن مهتمة بذلك، لهذا لا نزال ننتظر لحظة تُكتب فيها حكايتنا حقًا. كما هي، بلا رتوش.