05-أكتوبر-2017

جان ميشال باسكيات/ أمريكا

قال أحدهم ذات مرة: "أتريد أن تكون شاعرًا؟ إذًا، لماذا تخاف من الكلاب؟". أنا أخاف من الكلاب. لا أدري متى بدأ الأمر، ولكني أخاف منهم منذ زمن بعيد. أخاف منها إلى درجة أني لم أر كلبًا في حياتي، وتجنبت القراءة عنهم. لا أنفي أنه لدي بعض المعلومات عنهم عن طريق الصدفة لا أكثر، كأن يذكرهم أحد في حديث عابر، أو أقرأ عنهم في كتاب. طبعًا، لو كنت أعلم أنهم سيُذكرون هنا أو هناك لما شاركت في هذا الحديث أو قرأت ذاك الكتاب، لكن أحيانًا تستغفلني هذه الأمور.

تجنبت العيش في المدن التي أسمع أن فيها الكثير من الكلاب، وامتنعت عن المرور في الشوارع التي يُذكر أن فيها كلابًا. لقد كان أمرًا لا محيد عنه بالنسبة إلي. أنا أخاف من الكلاب، ولا أستطيع فعل شيء حيال ذلك إلا تجنب الاقتراب منهم.

إلا أنه تتملك الإنسان، في بعض الأحيان، رغبات تعادل في شدتها مخاوفه. لم أكن أظن أن الرغبة التي تستولي على الإنسان تكون بقوة الخوف نفسها. كنت أعتقد أن الخوف هو أقوى المشاعر الإنسانية، فقد خبرته بنفسي، لكني حين كبرت قليلًا اكتشفت شيئًا مخالفًا لما اعتدت عليه. لقد استولت عليّ الرغبة في أن أكون شاعرًا، ومع أني أخاف من الكلاب فقد أردت أن أصير شاعرًا.

حين قررت أن أصبح ذلك، تغير حالي تمامًا. إذ ذات يوم رأيت كلبًا أمام باب البنك الذي أعمل فيه. لقد تطلب الأمر وقتًا كي أتعرّف عليه، ولكن منذ أن وقعت عيناي عليه بدأت تساورني الشكوك. كما ذكرت سابقًا، أنا لم أرَ كلبًا في حياتي، إلا أن حدسي أخبرني بأن هذا الكائن الغريب المتربص أمام باب البنك هو كلب. تأملته جيدًا وتطابقت أوصافه مع كل ما سمعت أو قرأت عنه. إنه كلب.

أصابتني الحمى على الفور، وحتى الآن لا أدري كيف وصلت إلى البيت. أميل أحيانًا إلى الاعتقاد بأني خرجت من الباب نفسه الذي أمرّ به كل ما غادرت عملي والذي يتربص الكلب أمامه، وأن الأخير لم يقربني أو يحاول مهاجمتي، بل تركني أعود بسلام إلى بيتي. لا أدري، أنا لا أذكر شيئًا، ويساورني الشك أن يكون الكلب قد تركني أغادر.

على كل حال، لن ينفع الأمر شيئًا. لقد حاولت سابقًا أن أتذكر لكن لا فائدة. لقد وصلت إلى البيت ولم أخرج منه منذ ذلك الوقت.

اتفقت مع البوّاب أن يحضر لي كل لوازمي، وأن يقضي كل حوائجي خارج البيت مقابل راتب شهري. فمن الخطر الخروج من البيت لأن الكلاب الآن تحيط بالمبنى الذي أسكن فيه، وهي تنتشر على السلالم، حتى يوجد واحد منهم يتربص دائمًا أمام بيتي، لذلك امتنعت عن فتح الباب. أرسل سلة مربوطة بحبل من النافذة إلى أسفل المبنى كي أتلقى الأغراض التي اشتراها لي البوّاب باعتبار أنها الطريقة الأسلم للتواصل معه، ففتح الباب مغامرة لست قادرًا على خوضها.

مضت أشهر على حالي هذا، وما زلت مصرًّا على رغبتي في أن أصبح شاعرًا، وغير قادر على التخلص من خوفي ومواجهة الكلاب. أقضي يومي كله في البيت ولا تسلية لدي إلا في مراقبة هذه الحيوانات أو التلصص على جارتي.

أنا أعيش في مبنى قديم، في بيت ورثته عن أبي. وقبل سنتين انهار جزء من الحائط الذي يفصل بين شقتي والشقة المجاورة. صاحب الشقة رجل عجوز يسكن في الطابق العلوي ويؤجر هذا المنزل إلى فتاة شابة تسكن لوحدها. تكاليف بناء جدار جديد باهظة جدًا ولا ندري ما الذي سيسببه هذا من إزعاج لي وللجيران الآخرين، لذلك قررنا أنا وصاحب الشقة أن نغطي الجزء المنهار من الحائط بمواد رخيصة من الطين والآجر، حتى يتسنى لنا لاحقًا هدم الحائط كله وبناؤه من جديد. كان الأمر مناسبًا جدًا لكلينا، وخاصة بالنسبة لي بعد أن تآكل جزء من الحائط البديل وخلّف لاحقًا فجوة أطلّ عبرها على غرفة نوم جارتي.

كانت تصل إلى البيت في الساعة السادسة من مساء كل يوم، وأنا أكون في انتظارها أمام نافذتي المطلة على الشارع. حين تدخل المبنى أنطلق صوب تلك الفجوة وأنتظر.

الفجوة في الحائط صغيرة جدًا بالكاد يتجاوز ارتفاعها مستوى ركبتي. أركع على الأرض كي أستطيع أن أرى. تدخل الفتاة غرفتها وتبدأ بتغيير ملابسها. أرى جسدها كله حين تكون في الجهة المقابلة من الحائط الفاصل بيننا، لكنها أحيانًا تقترب صوبي وتختفي أعضاء جسدها حتى لا يبقى أمامي إلا أسفل بطنها. أذكر مرة أنها كانت عارية تمامًا وأنها اقتربت نحوي حتى غمر بصري سواد شعر عانتها.

أظن أن الفجوة في الحائط يحيط بها بعض الأثاث ولذلك لم تتمكن جارتي من اكتشافها. لكنها ستكتشف الأمر ذات يوم، وسيعقب ذلك فضيحة كبيرة إلا أني غير قادر على سدّ الفجوة أو الإبلاغ عنها، فهذا هو الجزء الأهم من يومي. هذا هو الوقت الوحيد في يومي الطويل والبطيء الذي أنسى فيه خوفي من الكلاب ورغبتي في أن أكون شاعرًا. وفي الوقت الذي أحسّ فيه أني حبيس هذه العادة والفتنة التي توّفرها لي هذه الفتاة؛ أشعر بأني الرجل الأكثر حرية في العالم. أني حرّ من مخاوفي ورغباتي. أني مكتفٍ بعالمي الصغير هذا.

هكذا كانت حياتي، وهكذا كانت تجري أموري حتى جاء ذلك اليوم الذي طرقت فيه جارتي على بابي. تريد التحدث معي. هل علمت بأمر الفجوة؟ ما الذي عليّ قوله؟ كيف أبرّر الأمر؟ هل يعقل أنها كشفت أمر تلصصي عليها؟

ولكن ليست هذه هي المشكلة. إنها مشكلة ولكنها ليست أكبر مشاكلي الآن. المشكلة الحقيقية هي في فتح الباب. إذا فتحت الباب، فمن المؤكد أن الكلب سيهجم عليّ. لكن، لماذا لم يهجم عليها حتى الآن؟ كيف يعقل أنها لا تخاف من الكلاب؟ ولكن حتى البواب لا يخاف من الكلاب. شاهدته أكثر من مرة يقف بجانبهم وهو يضع أغراضي في السلة. زملائي أيضاً في العمل لم يؤرقهم موضوع الكلب، كنت الوحيد هناك الذي استبد به الخوف والقلق. وأيضًا جميع الناس الذين عرفتهم في حياتي كانوا يتعاملون بيسر مع موضوع الكلاب. لم تنهش الكلاب أحدهم.

أنا الآن أمام الباب ولا أعرف ما الذي ينبغي لي فعله. هل أفتح الباب أم أتجاهل الأمر؟ إنها تصرّ على طرق بابي، ولا بدّ من التصرف الآن.

فتحت الباب قليلًا بما يكفي حتى أخرج رأسي منه. كنت أنظر نحوها ولكن عقلي كان مركّزًا على الكلب الجاثم خلفها. اصطنعت ابتسامة خفيفة، وقالت:

–  مساء الخير. آسفة على إزعاجك. أنا أسكن في الشقة المجاورة لك. أودّ أن أطلب منك إن كان بإمكانك إسكات الكلاب، فهي لا تتوقف عن النباح صباح مساء.

–  أيّ كلاب؟

–  كلابك. الكلاب التي في شقتك.

لا يعقل! هل هذه هي أصوات كلاب. كنت أسمعها طوال الوقت ولكنني اعتقدت دائمًا أنها أصوات السيارات أو أي شيء آخر، لكن لم يخطر ببالي أبدًا أن يكون هذا صوت نباح الكلاب. لا يعقل ذلك!

نظرت خلفي، أجل ثمة كلب في شقتي، بل أكثر من كلب واحد. يا للهول! كل هذه الكلاب في شقتي. أغلقت الباب في وجهها وهرعت نحو الحمام وأغلقت الباب بإحكام. ماذا أفعل؟ كيف أتصرّف؟ الكلاب في شقتي طوال هذا الوقت وأنا لا أعلم. لم يخطر ببالي أبدًا أن تكون الكلاب مختلفة الأنواع والأشكال. كيف يمكنني معرفة ذلك؟ كيف أمكنني تجاهل ذلك؟

قضيت ليلتي في الحمام، وفي اليوم التالي استبد بي الجوع لكني قاومت رغبتي في فتح الباب. ماذا أفعل؟ صوت نباحهم لا يتوقف. لم يعد دماغي يتحمل ذلك. مرّ يوم آخر على هذه الحال. ولم يخطر ببالي إلا في مساء ذلك اليوم أن يكون ثمة كلب في الحمام أيضاً. نظرت إلى حوض الاستحمام ورأيت كلبًا آخر. لا مفرّ.

خوف رهيب استبد بي وشلّ حركتي. لأول مرة أنظر إلى كلب من هذه المسافة القريبة. إنه يقف قبالتي، بالكاد تفصل بيننا مسافة متر واحد. زحفت نحو الباب وفتحته وأكملت زحفي خارج الحمّام، حتى نالني التعب والرعب واستسلمت في وسط غرفة الجلوس. أحاطت بي الكلاب من كل صوب، واقتربوا نحوي وبدؤوا ينهشون لحمي. لم يأكلوا كل شيء، بل إنهم يلتهمون كل يوم جزءًا من جسدي ويعضون باستمتاع قطعة من عظامي. إنهم ينهشون جسدي بطريقة فظيعة وبطيئة. هم لا يريدون فقط إبادتي، بل يرغبون أيضًا أن أشهد ذلك بنفسي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وصية صرصور

في اللوحة بائع كعك