31-ديسمبر-2020

غرافيتي في الخرطوم

ترتبط اللغة بذرى الحقيقة الثلاث؛ الفكر والمجتمع والثقافة، فلا فكر أو وعي أو فهم للعالم بدون لغة، ذلك أن اللغة هي مادة التفكير الأساسية، التي تصير التصورات الذهنية بواسطتها أفكارًا، وتجعل من العالم وجودًا قابلًا للفهم والعقل وإعادة الخلق والتكوين. اذهب إلى المجتمع وانزع منه اللغة تحصل على عدم كامل، عدم تعيين، عدم وجود، عدم تكوين. اللغة لا تساعدنا في تمييز أنفسنا عن الآخرين، بل تخلق الشروط المناسبة لتجعل منا ومنهم تركيبًا نوعيًا جديدًا، أي مجتمعًا.

اللغة لا تساعدنا في تمييز أنفسنا عن الآخرين، بل تخلق الشروط المناسبة لتجعل منا ومنهم تركيبًا نوعيًا جديدًا، أي مجتمعًا

إذا كان من غير الممكن تصور المجتمع بدون رابط، ملاط، لغة توحد بين أفراده المختلفين لتجعل منهم ذاتًا واحدة، هوية متمايزة عن غيرها من الهويات المجتمعية الأخرى، فإنه من غير الممكن تصوره بدون ثقافة. الثقافة بلغة الأنثربولوجية معرفة، معرفة الجماعة بذاتها، مجموعة تصوراتها المشتركة عن نفسها وعن العالم الذي تعيش به؛ تصوراتها العقائدية عن الخلق والوجود والنهايات السعيدة، كما تصوراتها الأخلاقية عن الحرام والحلال عن الممنوع والمباح، أضف إلى كل ذلك أنماط سلوكياتهم المشتركة في مباشرتهم للطعام أو الكلام أو الفعل اليومي، هذا ناهيك عن تصوراتهم الجمالية في الملبس والمأكل والمسكن.

اقرأ/ي أيضًا: مسودة في نقد النسوية

ثمة علاقة عميقة بين لغة الناس سواء فيما تعلق الأمر بمفرداتها أو نحوها، وبين الثقافة التي تمثلها أو تحمل وجهة نظرهم إتجاه العالم. ففي الوقت الذي كانت تشير فيه كلمة "مونس"، زمن الحضارة الرافدية ذات الثقافة الأمومية، إلى المرأة المبجلة، التي لها الحق بتخصيب نفسها من قبل عدد كبير من أفراد عشيرتها، دون أن ينتقص ذلك من كرامتها أو شرفها. فإن دلالة تلك الكلمة كما بنيتها الصوتية ستتعرض للتغيير والتحوير لتصبح "مموسا" أي امرأة بدون شرف، وما كل ذلك إلا تماشيًا مع طبيعة الثقافة الذكورية المنتصرة، التي قررت أن تسلب من المرأة فعل الخلق والولادة والخلود وتنسبه لنفسها عن طريق خط النسب الأبوي.

لا يشير مصطلح اللغة الذكورية إلى أن اللغة البشرية في مجتمع ما ما هي إلا وقف على جماعة الذكور دون غيرهم كما يحاول أن يتوهم البعض، بقدر ما تشير إلى طبيعة الهيمنة الذكورية المجتمعية ومن تسربها إلى بنية اللغة.

على ضوء هذا التصور فإن غنى اللغة العربية بمجموعة من الضمائر، التي تعكس حضور المرأة في جميع حالات المفرد والمثنى والجمع،على النحو الذي نراه في صيغة المخاطبة "أنتِ، أنتما، أنتن"، أو في صيغة أدوات الوصل "التي، اللتان، اللواتي"، لا يمكن ردها إلا إلى الفضاء الاجتماعي الذي خلقت في إطارها، وهو إطار الثقافة الأنثوية المهيمنة، التي كانت تفاخر باحتكارها لعملية الولادة أو خلق الحياة، ومن ثم العمل على استمرارها عن طريق تفردها في إدارة الاقتصاد المنزلي.

إن أفضل الطرق لفهم الطابع الذكوري المهيمن في بنية اللغة العربية، سواء على مستوى الحالات الإعرابية أو مستوى التحولات الدلالية في الألفاظ، هو الإنصات لخطاب تلك الثقافة في القضايا الكبرى، ولا سيما قضايا الخلق والعمل والوجود والعدم البشريين. وهو خطاب ثقافي راسخ تضرب جذوره الثقافية في التصورات العقائدية لإنسان بلاد الرافدين، ومن ثم في وقت لاحق لتصورات إنسان "التوراة"، وصولًا إلى إنسان "الإنجيل المسيحي"، الذي جعل من عملية الخلق والقيامة عملية مناطة حصرًا بالفعل الذكوري، أو الثالوث الذكوري المقدس وحده، القائم على وحدة الآب والابن والروح القدس.

وفق السردية الذكورية، تمتد عملية الخلق لتعبّر عن الرفعة والسمو والاستقلال التي رافقت عملية خلق الرجل وحرمت منها الأنثى

لا تعكف عملية الخلق وفق السردية الذكورية على منح الرجل الأولية في تلك العملية وحسب، بل تمتد لتعبّر عن الرفعة والسمو والاستقلال التي رافقت عملية خلق الرجل وحرمت منها الأنثى. ففي الوقت الذي حرصت فيه تلك السردية على جعل عملية خلق الذكر، تتم وفق قالب طيني مقدس حمل في داخله كل صفات الصانع ـ الرب، اقتصرت سيرورة خلق الأنثى على ايجادها من ضلع الرجل الأعوج. وما كل ذلك إلا لترسيخ التمايز الاجتماعي، القائم على هيمنة الرجل الذي أصبح بقدرة التصورات الذكورية أصلًا خالقًا فاعلًا، وأصبحت المراة مجرد "فرع" أو تابع له.

اقرأ/ي أيضًا: نظرة في تاريخ الطبيعة الذكورية للمجتمع الإنساني

إذا كانت عملية الخلق وفق السردية الذكورية قد هدفت إلى خلق الأرضية الروحية المقدسة للهمنية الرجل على المرأة في الفضاء الاجتماعي، فإن سردية إخراج الرب لآدم وحواء من الجنة لم تكن تهدف سوى لتحميل وزر ذلك الخروج للمرأة وحدها، في رغبة عميقة على ما يبدو لتخفيض قيمتها الوجودية إلى مستوى الأفعى ـ الحيوان تارة، وإلى مستوى المسخ ـ الشيطان تارة أخرى.

في تماهي النفزاوي مع سردية الثقافة الذكورية عن خلق الأنثى ومن ثم عملية شيطنتها، عمل الرجل في كتابه "الروض العاطر في نزهة الخاطر" جهده على إخراجها من دائرة الإنسانية عبر إصراره على جعل عقلها بين فخذيها، في مقدمة على ما يبدو لتحويلها من كائن إنساني عاقل إلى مجرد جسد شبقي شيطاني لا غاية له سوى فتنة الرجل، الذي يستميت لربط نفسه بعلمية الخلود عن طريق خط النسب الأبوي، فيما تستميت المرأة بالتشويش عليه والانتقام منه.

في الروض العاطر، أي الجسد الأنثوي، لا يكتفي النفزواي بشيطنة الجسد وجعله خطرًا محتملًا على نقاء النسب الذكوري وحسب، بل يسعى لربطه بالبهيمية، من خلال حشده لعدد كبير من الحكايات الجنسية القائمة على استعذاب الأنثى لممارسة الفعل الجنسي مع المهابيل أو المجانين، لا لشيء سوى لضخامة الأعضاء الذكورية التي لديهم.

تقدم لنا اللغة للعربية أمثلة فذة عن الأثر القار للثقافة الذكورية في بنيتها اللغوية، ففي مثال تذكير المؤنث، القاضي بجواز رد المؤنث إلى المذكر، وما ذلك إلا لتصور اعتقادي ثقافي يقوم على رد الأنثى "الفرع" إلى الذكر "الأصل"، الأمر الذي نجده في لفظ "الطبيب" مثلًا، الذي لا يشير إلى الطبيب الذكر وحسب، بل إلى الطبيبة الأنثى أيضًا.

فيما تصر الثقافة الذكورية العربية على رد المؤنث ـ الفرع إلى الأصل ـ الذكر، فإنها في قضية جمع المذكر السالم تستميت في إخراج الأنثى منه، وهي لا تفعل ذلك كما تدعي لاحتواء اسم الأنثى على تاء التأنيث، بل لقناعة راسخة لديها بعدم أهلية المرأة للدخول في صف الذكر العاقل، شأنها في ذلك شأن الطفل والمجنون والحيوان.

سردية إخراج الرب لآدم وحواء من الجنة لم تكن تهدف إلا لتحميل ورز ذلك الخروج للمرأة وحدها

واحدة من العلامات الكبرى التي تسترعي الانتباه في اللغة العربية هي تاء التأنيث الملحقة بالفعل، كما الطريقة التي يصر النحويون بالتعامل معها. حيث لا يمكن فهم إصرارهم على جعلها ساكنة، ومن ثم لا محل لها من الاعراب، سوى استجابة لواقع الهيمنة الاجتماعية التي جعل من الرجل مركز الفعالية الاجمتاعية، ودفع المرأة إلى مستوى الهامش المناط بها الحفاظ على الخلق الذكوري عبر طريق النسب الأبوي.

اقرأ/ي أيضًا: السلطة الذكورية على هيئة أغنية ناعمة

على أهمية المعركة التي يمكن للمراة أن تخوضها ضد جميع أنواع التحيزات اللغوية، من شاكلة تاء التأنيث الساكنة أو تذكير المؤنث وشروط جمع المذكر السالم في الفضاء المعرفي أو اللغوي، فإن المعركة الحقيقية لكسر حالة الهيمنة الذكورية تظل في ميدان الواقع الاجتماعي. فبدون تحرر المرأة من هيمنة الرجل وبدون كسر القسمة غير العادلة بين كائن أصل وآخر تابع، فإن تاء التأنيث الساكنة ستعجر عن تحولها إلى تاء الفعل أو الإنجاز، الذي لا يمكن لها أن تتحقق إلا في ظل شراكة إنسانية جديدة قائمة على مفهوم الحرية، والاعتراف المتبادل بين الذكر والأنثى في دور كل منها في عملية خلق العالم وإعادة تأثيثه من جديد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أكذوبة الأم العظيمة

أنا امرأة.. عنّفني!