26-أغسطس-2017

يزداد الوضع سوءًا على المفقرين في مصر مع موجة الخصخصة المحتملة في مناحي مختلفة (Getty)

الأمر أصبح معتادًا ومألوفًا بدرجة مريبة في برّ مصر، فبعد كل كارثة تحلّ بالمصريين يتسابق رجال الدولة في تقديم اقتراحات تبرّر فشل النظام وتلقي بالمسؤولية على مجموعة من العاملين الصغار في الهيئات الحكومية، ولكن الأخطر هو محاولة الدولة سحب نفسها من مسؤولياتها المجتمعية عن طريق بيع أصولها العامة من بوابة مشاركة القطاع الخاص. حادثة اصطدام قطاري الإسكندرية قبل أسبوعين أعادت إلى الأذهان خطط الحكومة المصرية لخصخصة المرافق العامة، مع خروج تصريحات رسمية أشارت إلى قرب تعديل قانون السكة الحديد والاتجاه للاستعانة بالخبرات الأجنبية ومشاركة القطاع الخاص والشركات الاستثمارية "من أجل تحسين الخدمات ورفع كفاءة المرافق".

يلاحظ في مصر محاولة السلطة سحب نفسها من مسؤولياتها المجتمعية عن طريق بيع أصولها العامة من بوابة مشاركة القطاع الخاص

ورغم نفي هشام عرفات، وزير النقل المصري، نية الحكومة خصخصة مرفق السكك الحديدية، يبدو أن الشبح القديم سيعود مجددًا ومعه ستعود التساؤلات المقلقة حول مصير العاملين بالقطاع ومدى تأثير الخطوة على تكلفة الخدمة التي يعتمد عليها ملايين المواطنين يوميًا. كالعادة، بدأ التمهيد للأمر من داخل مجلس النواب، فأثناء جلسة استماع عاجلة مخصصة لمناقشة أسباب وتداعيات حادث الإسكندرية وطرق معالجة مشكلات السكك الحديدية، وجّه وزير النقل حديثه إلى النواب مؤكدًا أن "دخول القطاع الخاص بمنظومة سكك حديد مصر أصبح ضرورة مهمة"، محددًا مبلغ 10 مليار جنيه لازمًا لتطوير منظومة السكك الحديدية.

الردّ البرلماني لم يتأخر بل جاء في نفس الجلسة، حين كشف محمد بدوي دسوقي، عضو لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب، عن اعتزامه تقديم مشروع قانون لتعديل قانون هيئة السكة الحديد، يستهدف السماح لشركات القطاع الخاص بالمشاركة في إدارة هيئة السكك الحديدية. ومثلما تسارع الحكومة في نفي مساعيها لخصخصة القطاع العام، سارع النائب في تصريحات صحفية بنفي تسمية مقترحه بـ "الخصخصة"، مشيرًا إلى أن  إسناد مهمة إنشاء خطوط سكك حديد جديدة وشراء قطارات جديدة لشركة عالمية تستفيد من هذه الخطوط لمدة لا تتجاوز 30 عامًا، سيفيد الهيئة ولا يندرج تحت بند الخصخصة.

محاولة التحايل على التسمية كشفتها تصريحات عضو آخر بلجنة النقل بالبرلمان المصري أكّد فيها صحة التكهنات باتجاه الحكومة نحو طريق الخصخصة من جديد. فقد صرّح النائب محمد المتولي الكوراني، السبت الماضي، أن تطوير منظومة السكة الحديد يحتاج لتمويلات ضخمة، وهو ما يتطلب إصدار تشريعات تتيح إشراك القطاع الخاص، مضيفًا أن القانون الحالي المنظم لهيئة السكة الحديد لا يسمح بشراكة القطاع الخاص باعتبارها مرفقًا عامًا.

اقرأ/ي أيضًا: خصخصة المرافق العامة في مصر.. طحن ما تبقى

خطة فاشلة

النوايا الحكومية استثارت عددّا من الخبراء ممن أكّدوا على عقم ذلك التوجه، من بينهم الدكتور عادل الكاشف، رئيس الجمعية المصرية لسلامة المرور والطرق، الذي يرى أن فكرة الخصخصة أو بيع قطاع السكة الحديد لشركات أجنبية غير مجدية، مفضلًا اتجاه الوزارة لعمل اكتتاب واستقدام شركات مشهود لها بالكفاءة والخبرة في مجال المرافق الحديدية لتقوم بالإدارة. ولفت الكاشف إلى عدم وجود رؤى أو خطط أو استراتيجيات أو حتى حلول جزئية لدى الدولة للتعاطي مع ذلك القطاع المنهار منذ عقود، رغم التغييرات الوزارية المتكررة، مشيرًا إلى أن المشكلة يمكن حلها عن طريق اختيار وزير متخصص في شئون السكك الحديدية باعتبار أن هذا القطاع يوفر وسيلة نقل آمنة ورخيصة للركاب وبطريقة آدمية.

حديث الخبير السابق لن يجد آذانًا صاغية لدى الحكومة المصرية التي تسعى إلى التخفّف من ميزانية أي أعباء جديدة، في ظل الوضع الاقتصادي المتردي وفي ظل تصريحات الرئيس المصري المتكررة عن وجوب مساهمة المواطن في تحمل تكلفة أي خدمة تقدّمها له الدولة، لأنه "غلبان ومش قادر"، على حد تعبير السيسي الذي لا يرى في المواطنين، ولا سيما محدودي الدخل منهم، إلا مشاريع "تبرُّع" لمصر ولميزانية مصر ولمشروعات مصر القومية، أو مشاريع "تحمُّل" و"صبر" لأن "ظروف البلد صعبة، ولازم كل واحد فينا يمدّ إيده يحطّ حاجة".

لا يرى السيسي في المصريين إلا مشاريع "تبرع" لمصر ولمشروعاته القومية، أو مشاريع "تحمُّل" و"صبر" كما يروج في خطاباته

لتكون النتيجة المتوقعة في مثل هذه الحالات وبالنظر للميراث المصري في معالجة الأخطاء الإدارية والتشغيلية للمرافق العامة، تسريح الآلاف من العاملين ورفع تكلفة الخدمة المقدمة، دون البحث عن حلول جذرية تعالج المشكلة. وبحسب الباحث كريم حسين في حديثه لـ"ألترا صوت"، فإنه لا يمكن فهم تعامي الدولة المصرية عن إصلاح منظومة حيوية وخطيرة كمنظومة السكك الحديدية إلا في إطار تمهيد الطريق لما هو أفظع. ويوضح الباحث فكرته بقوله إن "الدولة تصرّح مرارًا وتكرارًا بأن تلك المنظومة تأتي عليها بالخسارة كل عام، لتهيئة الرأي العام لمزيد من الكوارث والنهب الممنهج بحجة عدم قدرة ميزانية الدولة على تغطية تكلفة الإصلاح، أو ربما لتقوم الدولة بتصفيتها من الأساس وبيع قطاراتها وخطوط سككها الحديد "خردة" وتوزيع أراضيها وممتلكاتها على المستثمرين لمن يدفع أعلى سعر".

ورغم سوداوية السيناريو السابق، إلا أنه يمكن الوقوف على ما يدعمه من واقع سوابق الدولة المصرية في مشوار الخصخصة والحديث المتواتر مؤخرًا عن اتجاه واسع لدى النظام الحالي للتخلّص من الأصول العامة المملوكة للدولة، والذي ظهرت أولى بوادره في طرح الحكومة المصرية شركات المال العام منذ أيلول/سبتمبر 2016 عندما بدأ التداول فى البورصة على أسهم شركة مصر لإنتاج الأسمدة "موبكو" كأول شركة حكومية يتم قيدها وتداولها بالسوق منذ أكثر من 10 سنوات.  بعد ذلك التاريخ بشهرين، أعلنت سحر نصر وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي، في مقال نشرته جريدة وول ستريت جورنال الأمريكية، نية الدولة "الخروج جزئيًا من ملكية عدة مؤسسات وبنوك حكومية، من خلال الاكتتاب العام". وفي المقال نفسه أكدت نصر أنه "وللمرة الأولى سوف يشمل ذلك شركات المرافق العامة، التي كانت تاريخيًا تستثنى من عمليات التخارج باعتبارها قطاعًا استراتيجيًا".

أثار إعلان الوزيرة ردود فعل واسعة، خاصة أنها المرة الأولى التى تخرج فيها تصريحات حول الخصخصة بهذا القدر من الوضوح، منذ ثورة يناير 2011. حينها خرجت الحكومة لتنفي ما جاء في مقال الوزيرة، التي تشير تقارير إلى كونها الخليفة الأبرز لرئاسة وزراء مصر، لكن النص القاطع والواضح يشير بوضوح إلى أن الوزيرة كتبت في مقالها هذا الأمر ليس كفكرة محل دراسة أو نقاش، وإنما كتوجه حكومي قائم بالفعل ويجري الإعداد له، في إطار ما سبق طرحه وإعلانه عن نية الدولة لطرح حصص من بعض البنوك والشركات في البورصة، وهو ما اقتصر الإعلان عنه حينها على بعض البنوك العامة وشركات البترول. نصر، من جانبها، حاولت الدفاع عن نفسها وقالت إن المقال كان لمخاطبة المجتمع الدولى والمستثمرين العالميين لتوضيح خطة البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للحكومة، والذي وافق عليه البرلمان، وأكّدت أن "الحكومة تدرك أن مستقبل البلاد الاقتصادي يكمن فى تحقيق التطلعات الاقتصادية للمواطنين دون تدخل كبير من الدولة"، وأن "النمو المدفوع من القطاع الخاص هو الطريق لإطلاق إمكانات الاقتصاد"، وأن "الحكومة تشجع مشاركة القطاع الخاص فى قطاع الخدمات مثل القطاع المالي والشركات المملوكة للدولة، حيث تعمل الحكومة على عدم مزاحمة القطاع الخاص فى المشروعات التنموية".

ورغم المعارضة من جانب بعض الخبراء والمتخصصين والقوى السياسية لهذا التوجه، فإنه يتضح الآن، مع عودة الأخبار والأحاديث عن قرب تنفيذ الأمر وسط جدل يتزايد حول جدوى الفكرة وتداعياتها على أداء البورصة المصرية، وعدم اقتصاره على تلك القطاعات التي ذكرتها الوزيرة في مقالها فحسب. فبين الحين والآخر تصدر أنباء وتصريحات حول تطبيق نفس التوجه بخصوص شركات المرافق العامة، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي والنقل، وهي شركات محصنة بحكم الدستور ولا يحق بيعها.

تتالى الأنباء عن توجه نحو خصخصة شركات المرافق العامة، كالكهرباء والمياه والصرف الصحي، وهي شركات محصنة بحكم الدستور ولا يحق بيعها

ففي كانون الثاني/يناير الماضي قدّمت الحكومة مشروع قانون لتنظيم قطاع المياه والصرف الصحي، رأى فيه كثيرون اتجاهًا لخصخصة القطاع الحيوي بحجة التطوير، في إطار تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي بخصخصة الخدمات. واجه المشروع معارضة شديدة داخل البرلمان نفسه من جانب بعض النواب، أبرزهم فؤاد الشرباصي الذي حذّر الحكومة من خصخصة مياه الشرب والصرف الصحي لما يمثله هذا القطاع من خطورة على الأمن القومي المصري، ونبّه  إلى أن إعادة فتح ملف الخصخصة بمثابة كارثة نظرًا لحجم الخسائر التي أحدثها نظام مبارك في هذا الملف والتسبب في تدهور الكثير من الصناعات وتشرد الآلاف من العمال. وأوضح الشرباصي أنه يجب إيجاد حلول آخري لمعالجة فشل إدارة شركات القطاع العام، مؤكدًا أن الخصخصة أصبحت لغة الحكومة الوحيدة لمواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة.

لكن مع قرار الحكومة أوائل آب/أغسطس الجاري برفع أسعار مياه الشرب والصرف الصحي مرة أخرى، يبدو أن الدولة قرّرت تغيير التكتيك مع الإبقاء على الاستراتيجية نفسها. وبحسب خبراء فإن خطة الحكومة تقضي بطرح جزء من المرافق العامة للمستثمرين بهدف تقليل الدين في الموازنة العامة للدولة، على أن يتم ذلك بطريقة غير مباشرة وعلى عدة مراحل. من أمثلة هذا التوجه ما حدث في قطاع الكهرباء، حيث أصدرت الحكومة "قانون الكهرباء الجديد" في تموز/يوليو 2015 مستبقة الإعلان عن خطتها لتحرير سعر الكهرباء بحلول عام 2020، وذلك بعد تحرير تعويم العملة المحلية في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 ، من أجل تهيئة المناخ العام لقبول فكرة خصخصة المرفق الحيوي، مع تحوّر دور الدولة في العملية إلى الاقتصار على تنظيم وضبط ومراقبة هذا النشاط، وفتح السوق أمام المنافسة الحرة بين شركات القطاع الخاص فى إنتاج وتوزيع الكهرباء.

حذر نواب مصريون الحكومة من خصخصة مياه الشرب والصرف الصحي لما يمثله هذا القطاع من خطورة على الأمن القومي حسب رأيهم

ويسمح القانون الجديد بمشاركة القطاع الخاص فى إنتاج الكهرباء وبيع الكهرباء، على أن يكون من حق كبار المستهلكين أو من أسماهم القانون "المشتركون المؤهلون" الاختيار بين أكثر من مورد للكهرباء فى ظل سوق تنافسى بين القطاع الخاص والحكومة. كما سيسمح القانون بإسناد المشروعات بالأمر المباشر لشركات أجنبية، والتعاقد مع شركات خاصة لإنشاء المحطات، مثلما حدث في إسناد مشروع إنشاء خط كهرباء شرق النيل لشركة "أس جى سى سى" الصينية، بدلًا من طرح المشروع فى مناقصة عامة.

وفي كانون الأول/ديسمبر 2016، أعلن عبد الفتاح السيسي عن خطة تم الاتفاق عليها تقضي ببيع عدد من المستشفيات التكاملية من أجل "توفير دخل يمكّن وزارة الصحة من الوفاء بالتزاماتها تجاه المرضى البسطاء". الخطة التي أُعلن عنها بشكل عابر أثناء افتتاح السيسي المرحلة الرابعة من أعمال تطوير أحد المجمعات الطبية التابعة للقوات المسلحة، جاء طرحها بشكل عام ودون تفاصيل واضحة، ما دعا نقابة الأطباء لاستنكار التوجه الحكومي باعتباره " بداية لخصخصة قطاع الصحة".

"لو قدرنا ندخَّل القطاع الخاص أو المجتمع المدني.. ناخد منهم رسوم المستشفى وإقامتها ومستلزماتها، والفلوس دي نتفق معاهم إننا نقدّمها كعلاج للناس.. لو مستثمر عايز ياخد مستشفى 100 سرير، أو مؤسسة الأورمان أو مصر الخير ياخدها بمقابل مثلًا مليون أو 2 مليون، والرقم ده نعمل آلية ونظام، يقدر المواطن العادي من خلاله إنه يتعالج بيه"، هكذا قال السيسي، وهكذا كشف عن نيّة قديمة خطيرة، حاولت وزارة الصحة إخفاءها، بالكذب تارة وبالتلفيق والتضليل تارة أخرى، إذ أكدت أنه لا نية على الإطلاق لخصخصة مستشفيات التكامل العلاجي وأنها فقط تسعى إلى تشغيلها بهدف النهوض بأوضاع المنظومة الصحية، وذلك بعد انتشار أخبار في تموز/يوليو 2016 عن قرب صدور قرار من أحمد عماد الدين وزير الصحة، بطرح نحو 75 مستشفى من مستشفيات التكامل للبيع والخصخصة.

مع أنباء أخرى خرجت وقتذاك تتضمّن مقترحًا بأن تكون الدولة شريكًا للقطاع الخاص بالتعاون مع وزارة الاستثمار في تقديم الخدمة الصحية للمواطنين، كما قامت وزارة الصحة بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي بإرسال ملف مستشفيات التكامل كلها إليها، وتم الاتفاق على إيفاد وزارة الصحة بالجمعيات الأهلية الراغبة في استغلال هذه المستشفيات. وللتشويش على تلك النيات قامت وزارة الصحة بتحويل 12 مستشفى من مستشفيات التكامل إلى مستشفيات مركزية بعد إجراء بعض التعديلات لتتماشى مع المعايير والمواصفات الموضوعة، لكنها في الوقت نفسه لم تخف نيتها بوضع مقترحات لتشغيل باقي المستشفيات بما يعود للنفع على المنظومة الصحية والمريض.

وهو ما أكّده الأمين العام لنقابة الأطباء في تصريحات صحفية أشار فيها إلى أن "هذا المقترح خاص بوزير الصحة سبق أن طرحه واعترضنا عليه، وأرسله للجنة الصحة بمجلس النواب من قبل واعترضوا عليه أيضًا، ولكن يبدو أنه طرحه على رئيس الجمهورية مرة أخرى لإقناعه به"، وذكر المسؤول النقابي طرح عدد من البدائل الأخرى ومخاطبة رئيس الجمهورية بها لإعادة النظر في هذا المقترح مرة أخرى لصالح المرضى المصريين. وفي حين رأى البعض أن الهدف من تفعيل الخطة هو تقديم خدمة طبية جيدة بأسعار مخفضة، ذهب آخرون إلى أن الهدف الرئيسي من تنفيذ تلك الخطة يتمثل في تخلّص الوزارة من هذه المستشفيات بعد فشلها الذريع في إدارتها، وذلك بتحويل ملكيتها من القطاع الحكومي غير الهادف للربح إلى ملكية القطاع الخاص، بما يعني ببساطة العمل على تحقيق هدف أساسي وهو تحقيق الأرباح، وهو ما يتناقض مع فكرة تقديم خدمة طبية أفضل لغير القادرين، حيث إن تقديم تلك الخدمة على نحو جيد يعني تحمل هؤلاء فاتورة تكلفة علاج إضافية.

يتخوف الكثيرون من أن تتجاوز خصخصة القطاع الصحي في مصر مستشفيات التكامل إلى الإطاحة بمكتسبات التأمين الصحي

خصخصة القطاع الصحي في مصر لا تقتصر على مستشفيات التكامل، بل تعدتها إلى الإطاحة بمكتسبات التأمين الصحي الذي يستفيد منه أكثر من 60 مليون مصري. حيث أقدمت الهيئة القومية للتأمين الصحي في شباط/فبراير الماضي على رفع أسعار أكثر من 10 خدمات طبية أساسية مقررة للمنتفعين، بنسب زيادة تراوحت ما بين 40% إلى 100%. القرار جاء من دون موافقة برلمانية، من المفترض أن ينالها، على عكس ما حدث في عام 2007 حين رفض مجلس الشعب حينذاك مناقشة مقترح وزير الصحة حاتم الجبلي لتمرير زيادات الأسعار.

أثار القرار استياء حقوقيًا، حيث اعتبره المركز المصري للحق في الدواء جولة جديدة من جولات رفع أسعار الخدمات الصحية سواءً في مجال الصحة أو الدواء، مؤكدًا أن مثل هذه الضربات المتتالية تعكس حالة العجز البالغة في السياسات الصحية الحالية. ولكن في الحقيقة، فإن ذلك التوجه يمكن العودة إلى فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك للوقوف على بداياته، عندما أصدر أحمد نظيف رئيس الوزراء المصري آنذاك قرارًا بتحويل الهيئة العامة للتأمين الصحي إلى شركة قابضة، بما يعني تحولها إلى شركة ربحية بمعيار المكسب والخسارة، وهو المخطط الذي تصدّى له عدد من البرلمانيين والحقوقيين حينها ليتجه الأمر إلى ساحة محكمة القضاء الإداري، التي أصدرت حكمًا تاريخيًا يقضي ببطلان قرار الحكومة جاء في حيثياته: "إن كفالة الدولة للرعاية الصحية تحول دون أن يكون الحق في الصحة محلًا للاستثمار أو المساومة والاحتكار".

لكن يبدو أن السيسي عازم على تنفيذ كل ما عجّز عن فعله نظام مبارك، فوفقًا لمشروع قانون التأمين الصحي الشامل، المتوقع صدوره خلال الفترة المقبلة، ستتحوّل هيئة التأمين الصحي إلى هيئة اقتصادية هادفة للربح، يتم تمويلها عن طريق اقتطاع نسبة من مرتبات العمال والموظفين، ثمنًا للخدمة محمَّلة بالربح، كما ينصّ المشروع على مراجعة دورية لتلك النسب المستقطعة لإعادة تقدير الاشتراكات كل خمس سنوات، أي أنه من الممكن التراجع عن أي خدمة تقدمها الهيئة أو أية فائدة في المشروع أو زيادة سعرها طبقًا لأسعار السوق، أو في حالة وجود عجز مالي، وهو ما يخالف الهدف الرئيسي الذي تم تأسيس هيئة التأمين الصحي فى 1964، من أجله بهدف توفير الرعاية الصحية لكافة المواطنين لكفالة الحق في الحماية الصحية التأمينية التي تتم تدريجيًّا.

اقرأ/ي أيضًا: سياسات حكومة الجنرال لقتل المواطنين

ميراث الفشل

في بداية حكمه، انتقد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي سياسات خصخصة الشركات الحكومية والمرافق العامة التي اتبعها الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بداية من عام 1991، مشيرًا في خطاب له عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية صيف 2014، إلى أن الدولة في حينها لم تحاول معالجة أزمات تلك المؤسسات، "لأن المشكلة في كيف ومَن يتخذ القرار"، مؤكدًا أن "التجارب السابقة ليست مطمئنة". ولكن خلال فترته الرئاسية الأولى لم يقدّم السيسي دليلًا واحدًا على صدق هذا التخوّف الذي أبداه سابقًا، فالواقع يشهد بعودة دولته إلى تبنّي برنامج الخصخصة عن طريق طرح المرافق العامة للاكتتاب العام أو على الأقل التمهيد للخصخصة بتحرير ورفع أسعار الخدمات التي تقدّمها الدولة.

ويرى الباحث الاقتصادي كريم حسين أن عودة مصر إلى برنامج الخصخصة "دليل فشل على تعامل الحكومات المتتالية مع القطاع العام"، فلجوء النظام الحالي إليها من جديد وتخلّي حكومته عن دعم بعض السلع والخدمات والاستمرار في خطة "الإصلاح الاقتصادي" وفقًا لأجندة صندوق النقد الدولي، يؤشر على خطة ممنهجة تقضي بانسحاب الدولة من تأدية مهامها التي ينصّ عليها الدستور في مقابل إفساح المجال للمستثمرين وأصحاب رؤوس الأعمال، أيًا كان مصدرهم، لإدارة مرافق حيوية لطالما أُعتبرت من مسائل الأمن القومي، يقول حسين.

والحقيقة أن الخصخصة نفسها كلمة يثير وجودها في المجال المصري شكوكًا وتحفظات عديدة كلما جاء الحديث عنها باعتبارها نوعًا من حلّ وتطوير وتجديد المنشآت والهيئات الحكومية، وذلك نظرًا للميراث المصري الطويل مع الخصخصة كحلّ غير فعّال وطريقة سريعة لحرمان المواطن من حقوقه واستفادته من المميزات التي تطرحها هذه الجهات الحكومية موضع الخصخصة. هذا التاريخ الفاشل يوضّحه الباحث الاقتصادي بقوله: "عرف العالم الخصخصة منذ بداية السبعينيات، وجاءت إرهاصاتها إلى مصر عن طريق الرئيس الراحل أنور السادات، بالتضخيم من حجم خسائر القطاع العام وتردي مستوى المرافق والخدمات العامة، لكن التنفيذ الفعلي لها بدأ في أوائل التسعينيات في عهد مبارك، حين أوهمت الدولة المصرية وحكوماتها المتعاقبة المواطنين بأن اتباع سياسات التحرير السوقي هي السبيل الأمثل لتحقيق التنمية والتقدم ورفع مستوى معيشة المصريين". ويضيف الباحث أن تلك الطريقة هي نفسها التي يتبعها النظام الحالي في تصدير رسائل التفاؤل والتضليل إلى شعبه، بعد 3 سنوات من التخبط السياسي والاقتصادي ومع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في منتصف 2018.

وتشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء أنه بين عامي 1991 وعام 2008/2009 تم بيع 407 شركة من شركات قطاع الأعمال العام بحصيلة بيع بلغت أكثر من 57.3 مليار دولار، موزّعة على الحكومات بنسبة 9% من الشركات في عهد وزارة عاطف صدقي، 21% في عهد وزارة كمال الجنزوري، 21.6% في عهد وزارة عاطف عبيد و48.4% في وزارة أحمد نظيف، ونتج عن هذه السياسة إحالة أكثر من 500 ألف عامل إلى المعاش المبكر. وفي عام 2008، أصدرت الحكومة المصرية، بعد اجتماع لجنة السياسات بالحزب الوطنى، قرارًا بتجميد برنامج الخصخصة، وهو ما طرح على الساحة أسئلة وإستفسارات عدة حول العائد من البرنامج، ووسائل البيع والتقييم.

معظم القطاعات العامة التي تمت خصخصتها من قبل الحكومات السابقة لم تنجح في زيادة الكفاءة الإنتاجية لهذه القطاعات بما يتناسب مع الأثمان البخسة التي بيعت بها، ولعل أبرز الشركات المباعة شركة "النشا والجلوكوز" التي كانت فريدة من نوعها في منطقة الشرق الأوسط وتم خصخصتها عام 2003 وبيعها لأحد رجال الأعمال الكويتيين  بمبلغ 160 مليون جنيه رغم أن أصولها تزيد على 400 مليون جنيه. هذا إلى جانب "فضائح" أخرى طالت عمليات بيع شركات القطاع العام، أشهرها صفقة بيع مجموعة محلات "عمر أفندي" لرجل الأعمال السعودى جميل القنبيط والتي أصدرت بشأنها محكمة القضاء الإداري حكمًا في منتصف 2011 يقضي بإعادة جميع أصول وفروع الشركة للدولة مرة أخرى "نظرًا لعيوب طالت عملية البيع"، وكذلك إعادة جميع العاملين إلى سابق أوضاعهم السابقة مع منحهم كامل مستحقاتهم وحقوقهم.

الآن مع عودة شبح الخصخصة من جديد يبدو مثيرًا أن يتزامن الأمر مع استدعاء أبواق النظام الحالي الإعلامية لوجوه الماضي المسؤولة عن كوارث الخصخصة وتقييم الشركات المملوكة للدولة في "أكبر عملية نهب ممنهج في تاريخ مصر الحديث منذ عهد الخديوي إسماعيل". فها هو حسين صبور يكشف في حوار مطوّل على صفحات مجلة "الأهرام العربي" حقيقة أكاذيب نظام مبارك بشأن الخصخصة والخطايا المرتكبة في تطبيق العملية نفسها. يقول صبور في حواره أنه عندما جاء مبارك إلى الحكم كان يعلن دائمًا أنه ضد بيع القطاع العام، وفي ذات الوقت شكَّل لجنة اسمها شركاء فى التنمية من 4 وزراء و4 من رجال القطاع الخاص كانت مهمتها إعداد المسرح للبيع. الوزراء الأربعة هم يوسف والي رئيسًا وماهر أباظة وآمال عثمان وفؤاد سلطان، أما رجال الأعمال فكانوا حسين صبور ومحمد فريد خميس ووطاهر حلمي وعمر مهنى.

وحول  الكيفية التي اتبعتها اللجنة في عملها لإعداد المناخ للخصخصة يقول صبور: "كنا نقوم بعمل دراسات ومقارنة بين القطاع الخاص والعام، فمن ضمن ما درسناه فى هذا الوقت المقارنة بين مصنعين لصناعة السجاد، هما مصنع دمنهور ومصنع فريد خميس، الأول قطاع عام والثاني قطاع خاص. المصنع العام كان يعمل به 2000 عامل، والخاص كان به 700 عامل. ومصنع دمنهور كان يكسب في السنة 250 ألف جنيه، أما مصنع فريد خميس فكان يكسب 11 مليون جنيه فى السنة، ويصدّر منتجاته إلى الخارج. ومصنع دمنهور لم يكن يصدّر. فكنا نعدّ هذه الدراسات ونقدمها، ونقول يا جماعة نريد القطاع العام هكذا".

وفي واحد من أطرف وأخطر أجزاء الحوار، يكشف رجل الأعمال "الصالح لكل العصور" استعانة اللجنة بمجموعة من الخبراء الإنجليز لشرح أهمية وكيفية الخصخصة في مصر، ثم قراره السفر إلى إنجلترا على نفقته الخاصة "لأن مارجريت تاتشر هي التي بدأت الخصخصة سنة 1979 عندما نجحت فى الانتخابات، وقالت في برنامجها الانتخابي لا يمكن أن أسمح للقطاع العام أن يكسب 2% فى المتوسط فلابد أن يزيد مكسبه". سافر صبور إلى إنجلترا ليتعلّم التجربة منهم واشترى كتاب مارجريت تاتشر عن الخصخصة وأحضره معه إلى مصر. وبعد عودته كتب مذكرة إلى يوسف والي من 9 صفحات " كتبت ما قالته تاتشر لإنجاح الخصخصة، وهو أن إنجلترا عندما قررت البيع قالت: ماذا تفعلون في العروسة قبل أن تزوّجوها؟ تزينوها. فقبل أن تبيع شركة القطاع العام زينها".

بهذا المنطق يلّخص رجل الأعمال، الذي طاردته الفضائح وقضايا الفساد على مدار 40 عامًا، رؤيته لعملية الخصخصة التي يرى أنه "لو تم تطبيقها بنجاح من أول مرة لطالب الشعب باستمرارها". لكن إجابته اللاحقة عن سؤال حول غياب إسهاماته عن المشاريع التي تخدم فقراء مصر، ستكشف حقيقة رجال الأعمال الذين اعتمد عليهم نظام مبارك في تدمير القطاع العام بحجة الإصلاح، وسيعتمد عليهم السيسي في خطة "الإصلاح الاقتصادي" التي يزعم أنها تأتي في مصلحة محدودي الدخل. يقول صبور: "لم أقم بأي مشروع للفقراء أو لمحدودي الدخل. أنا في الاستثمار العقاري لا أعمل مع فقراء ولا محدودي الدخل، لأنهم لا يستطيعون الدفع. دعنا نتكلم بصراحة، أنا أقوم بمشاريع لمن لديه فلوس ومَن يدفع لي، "يا فرحتي لما أعمل للفقير وياخد الشقة وأكون خدمت المجتمع وما أخدتش فلوسي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

خصخصة الكهرباء في لبنان.. فواتير اللحم الحيّ

جشع الليبرالية الجديدة وأزمة الغذاء العالمية