15-أبريل-2018

أندريه ريمنيف/ روسيا

هل قرأتم ذلك النص الذي يقتل فيه صاحبنا الرائع شخصيته المحورية؟ هل تذكرتموه؟ راقني النص لكن مشهد النهاية لم يُعجبني بتاتًا، ولذلك قررتُ كتابة مشهد مُغاير أمنح فيه الشخصية المُنتحرة بسكين مطبخ تافه قيامة ومصيرًا آخر.

أيها الجمهور المُستمع لكاتبه العريق أنا، لا تستعجلوا اكتشاف هذا المصير، حيث سأمنحكم ما لم يمنحكم اياه كُتّابكم الآخرين: فرصة المشاركة في رسم المشهد الأخير، حسنًا لا تصفقوا إعجابًا بهذا الكم من الحرية المسلوب منكم في تفاصيل حيواتكم البائسة، إذ أنها ستكون محصورة فقط في هذا المشهد، أما باقي الحكاية فأنا ربها أخلقها كيفما شئت.

تسألونني كيف تشاركون في كتابة نص لا تعرفونه على وجه الدقة؟ حسنًا أيها العُجالى الكُسالى، بعضٌ من الصبر وستفهمون. في نصنا هذا مُعضلة أخلاقية ستتبلور أبعادها كلما أوغلت الشخصيتان في الأحداث أكثر، وكل الشكر لغيبوبة العقل. في مسرح قصتنا التي سنكتب ستتبارز الفضيلة والخطيئة مطولًا، وستشهد روح الشخصيتين هذه المبارزة الدامية وقد أنهكتها جولات الكر والفر المتلاحقة. ولذلك كله، اهتديت أنا الكاتب المُفدّى إلى خلاصٍ سيمنحهما الإثنين شيئًا من السلام والهدوء والرضا... إذ سيكون الموت هناك، حاملًا تحت إبطيه حلًا لكل عقباتهما الدبقة، لكن لن يأتي بسكين مطبخ أو بالقفز من أعلى المبنى أو حتى بالتهام حبوب "الباندول" السحرية... سأخبركم كيف...

لكن!!! آآآآه... تذكرتُ بأنني لم أوضح لكم الصورة كما ينبغي، حسنًا أيها الأعزاء المُزعجون الطيبون جدًا، هذا الرجل الذي ابتُعِثَ لتوه، كان قد أرسل إلى فتاة ما لم يلتقيها أبدا برسالة أنقذتها -حسب زعم صاحبنا الرائع- من مآل مأساوي، وفي ذات الرسالة أوهمها بلقاء آخر، وبعد ذلك قرر الانتحار.

أرأيتم؟ نعم يمكنكم أنتم يا مواطنو بلاد الموت والقتل والنحيب أن ترفضوا هذه النهاية المُغلقة المقيتة، لذلك اجتمعتُ بكم اليوم، لنخلق سويًا نهاية مفتوحة كتلك التي يختارها أصغر فرهادي لأفلامه فيتركنا حيارى لاحتمالات لا حصر لها حدودها اتساع خيالنا أو ضيقه. حسنًا أيها المتشوقون لقصص الحب التي لن تكون، سأوضح لكم كيف ستكون اضافتنا:

الفتاة المذكورة آنفا حزينة جدًا إذ يلتفها من كل جانب خوفان: الوحدة والموت، -وليس الوحدة فقط- فهي تعاني من مرض عُضالٍ ما، لا تقحموني الآن في انتقاء المرض، فهذا الأمر يحتاج إلى قليلٍ من البحث، لكنه عُضال بالقدر الذي سيمنحها الحياة لبعض الوقت. قد تسألون: ابتعثتَ الأول بينما تقتل الثانية؟ لماذا اخترتَ لها الموت كمصير؟ سأجيبكم ببساطة: الموت وسيلة للقفز على كل شيء: كل مرفوض ومُحتقر، إذ أنه في أحيان كثيرة يُذلل الصعاب، فمَن مِنا لا يُشفِق على إنسان يموت؟ للمُحتضرين أمانٍ تتحقق بالتعاطف. ألا تعلمون بأن الموت شافع؟

على أية حال، سيكون المُبتعث من موته موجودًا في الأنحاء: يشاهد التلفاز، يتصفح الإنترنت، يقرأ كتابًا أو ربما نائمًا في هذه اللحظة بالقرب من زوجته. أووووه نعم فهو متزوج، لم تكونوا تعرفون! إذا أنتم قُراء بذاكرة سيئة.

حسنًا دعوني أُكمل... سنرفض بكل حزمٍ أن نترك الفتاة التي استلمت الرسالة حبيسة الانتظار، هذا الحبس الذي نكره؛ حيث يقتات على أرواحنا كَنَهمٍ لا يشبع، ثم إذا نَفر من المذاق ليس إلا لسبب اعتياده عليه، تسلل إلى أجسادنا ليمكث على خارطتها بُرهة، فيأكل ما يشاء من شحمنا ولحمنا، وبعد ذلك يتركنا أشباحًا أنصاف حاضرين وأنصاف غائبين. ولأننا جربناه جميعًا بالقدر الذي نمقت، فلن نرتضي به مصيرًا ما دمنا قادرين على التمرد. النصوص نحن! وما هي دون كلمةٍ منا؟ وإن كل خاتمة لا تُحاكي هذا الرجاء المُرتبك داخلنا الباحث عن ضِفاف البسمة والأمل والحب... سَتُمحَق اليوم. بلى! نحن المُنهكين من مشاهد الدم والحروب والفراق، أتضيقُ بإنسانيتنا المُهدرة سطور قصة؟

كَفكِفوا دموعكم الآن، فالانفراجة باتت هناك على مَقرُبة من بِضعِ جُمل. دعونا نقفز على الكثير من المشاهد التي سأكتبها وحدي وبُكليتي كما أخبرتكم، إذ كنتم تتذكرون.

إذًا أيها الجمهور المُتعطش لخاتمة تواسيه، نحن الآن في المشهد المنتظر الذي يقرر فيه هذين الاثنين".

كان هذا المشهد الأخير الذي التقطته ذات الكاميرا التي كانت تدور في نصٍّ آخر، لقد توقف مؤشر الطباعة عند الكلمة الأخيرة مطولاً، فكاتبنا الواثق من ذاته تردد كثيرًا وهناك من خمّن بأنه وقع في حيرة قاتلة، بل إن نفراً من الجمهور وصفه بالجبان، وبعد فترة من التبرم والشتم تركه جمهوره العزيز وبقي وحده في القاعة جافلًا، خائفًا... ثم انهمر في بكاء مرير.

لكنني أنا المُراقب لهذا المشهد من البداية، أتفهمُ قرار كاتبنا بل وأرأف لحاله، فالتوقف عن الكتابة في تلك اللحظة بالذات أعطى شخوص الحكاية خطة نجاةٍ أخرى ومصائر نتمنى إن لم تكن الأفضل، فالأقل ثمنًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

انعكاس ذات

تأخر الصيف كثيرًا هذا العام