22-يناير-2017

أشهر هواتف شركة نوكيا (فيس بوك)

لماذا أشعر بالحنين إلى نوكيا؟ سؤال يلح على البال منذ أيام، انتهى أمس بحديث عائلي طويل عن ذكرياتنا مع نوكيا، قصص عادية تغدو مضحكة وجميلة وطريفة لأن فيها هواتف نوكيا، الأسماء الطريفة، العادات الغريبة، المواقف المخجلة والمقالب السخيفة والأخطاء القاتلة، التي نظل نستدعيها بانفعال عاطفي، تعزز السؤال عن سبب الحنين لنوكيا.

يبدو لي أن للأمر عدة مستويات، شيء يتعلق بجيلي وشيء عام، يتسع لمساحات تحليل مختلفة ومركبة.

يمكن القول إن ربيع نوكيا رافق ربيع أعمارنا، فكنا شخوص الحنين وكانت نوكيا موضوعه

ما يتعلق بجيلنا قد يكون مفاجئًا، تحديدًا حين أدعي أن في الأمر فجوة جيلية تعزز الحنين لنوكيا، قبل مدة في معرض للكتاب وقفت لعشر دقائق أحاول فهم طبيعة الكتاب الذي بين يدي، ليأتي فتى ويقول لي إنه كتاب يشرح لعبة فيديو منتشرة، أنا لم أغادر عشرينياتي بعد وأشعر بالفجوة!

لقد تعرفت على كل ألعاب الفيديو التي تطورت مع تطور الحواسيب في طفرتها، كما يليق بمواليد الثمانينيات، أقف حائرًا أمام كتاب يشرح لعبة بلغت من الشهرة حد إصدار كتاب عنها، ويصل لفلسطين التي بالكاد تدخلها الكتب المهمة، وأنا لم أسمع عنها يومًا. هذه الفجوة الجيلية تعزز الحنين إلى متعلقات مرحلتنا، مرحلة بداية الهاتف المحمول في بلادنا.

اقرأ/ي أيضًا: أفضل سبع ألعاب في الثمانينيات

وعلى ذات المستوى وبطريقة العبارة الساذجة المنتشرة والمتسائلة عن حظنا إزاء تزامن ربيع أعمارنا مع خريف بلادنا، يمكن القول إن ربيع نوكيا رافق ربيع أعمارنا، فكنا شخوص الحنين وكانت نوكيا موضوعه، رسائل الحب الأولى، والرنين الطويل دون رد، وتقسيم الرغبة على عدد الدقائق المتاحة، وأول صور ملونة على شاشة صغيرة، وعبارات الغزل المسجوعة مع كثير من النجوم، والأسئلة الساذجة عن ضرورة إرسال المعايدات والتهاني والرد عليها، وبدايات الحديث المضحك عن الخصوصية والعالم الذي يتغير وعشرات الأشخاص الذين باتوا يسكنون جيوبنا، كلها كانت عبر نوكيا.

أما المستوى الثاني فيمكن الولوج إليه من اللقاءات العائلية المسائية الرائقة، إذ تمكن ملاحظة أن موضوعًا أو فكرة أو حكاية ينتهي إليها الحديث الطويل غالبًا، شيء فيه قوة جذب عالية يظل يجذب الحوار بلطف وبطء حتى يقع فيه، يشبه الثقب الأسود في دروس الفيزياء، ويمكن تشبيهه لدلالة ألطف وأقرب ببحيرة تتوسط سلاسل جبال، ينتهي إليها الماء كله.

حصيلة مراقبة هذه المساءات العائلية انتهت بي لاكتشاف شيئين يتعلقان بالبحيرة تلك، أولًا أنها في الماضي، ثانيًا أنها في الأحاديث المسائية الراهنة لا تشبه نفسها في الماضي.

نرتمي في الماضي لإعطاء حياتنا معنى، لأن ما مضى وخبرناه ولا يمكن للحاضرين التشكيك فيه، كان جميلًا وحظينا بالكثير

هل الحاضر سيئ إلى هذا الحد حتى ننتهي في الماضي دومًا؟ بالتأكيد لا، هل الماضي جميل إلى هذا الحد حتى ننتهي بالتفكير عنده؟ بالتأكيد لا أيضًا.

على الأغلب، نرتمي في الماضي لإعطاء حياتنا معنى، لأن ما مضى وخبرناه ولا يمكن للحاضرين التشكيك فيه، كان يستحق أن يعاش، كان جميلًا وحظينا بالكثير. إسباغ المعنى على الحياة، تحديدًا المنقضية يمثل عزاءً كبيرًا. وهذا العزاء الذي نحتال به على أنفسنا هو ما يدفع لتخليص الماضي من علله وعيوبه، فيتحول مع الوقت لصورة مختلفة عما كان فعلًا. هذان السلوكان أو الاحتيالان هما دعامتا الحنين الأهم.

السؤال المهم هنا، وهو ما يكشف كمية الاحتيال النفسي إزاء البحيرة الجميلة تلك، هو هل نقبل استعادتها كما كانت؟ هل نريد فعلًا العودة إلى تفاصيل الصورة الماضية وعيشها مرة أخرى كاملة دون عملية التجميل التي أخضعناها لها؟ هذا السؤال العملي هو ما يكشف المشكلة، ويؤكد على الحقيقة البسيطة، وهي أن استعادة خيارات الماضي والعودة إلى البحيرة الجميلة، لا يتم إلا على مستوى نفسي، ولا يفعل فعله إلا في المساحة تلك من الذهن لا الواقع.

المهم هنا هو أن استعادة خيارات الماضي لا يصلح إلا كمادة للحنين، استعادة لا يمكن أن تكون حقيقية، لو أن نوكيا كان يكفي لما تهافتنا على كل منجز بعده، وبالتأكيد لن نقبل بجهاز بإمكانياته اليوم، قيمته الأساسية والوحيدة أنه موضوع الحنين.

اقرأ/ي أيضًا: ماسبيرو زمان": الإفلاس الفني بصيغة الحنين"

يبدو الأمر مع نوكيا طريفًا ولطيفًا، ولكن ماذا بشأن كثير من الأفكار والخيارات السياسية مثلًا؟ ألا يصح معها هذا التحليل أيضًا؟ على نمط القاهرة في الخمسينيات وطهران في الثلاثينيات وكابول في الستينيات. إن كفاءة وروعة وجمال الفكرة كما تبدو الآن من الحاضر لا علاقة له بالقدرة على استعادتها أو الرغبة بها كاملة مكتملة الآن. ربما هذا مما يصعب إدراكه إذ تتحكم به عوامل نفسية، فلا ننسى أننا نتحدث عن الحنين قبل كل شيء، إلا أن كثيرين يستثمرون فيه.

أمس باعت نوكيا الكمية المنتجة من هاتفها الذكي الجديد نوكيا 6 خلال أربع دقائق، البيع أونلاين في الدقيقة الأولى استنفد مليون جهاز

إن استعادة الماضي، في الخطاب الدعائي السياسي العربي مثلًا، مليئة بهذا الحنين غير العملي، والتشاجر في المساحات التواصلية الاجتماعية عربيًا كله يدور في تلك المساحة، صورة متخيلة للماضي يتم التقاتل عليها. ولكن القيمة العملية لهذا الحنين هي في تحوله لمناصرة سياسية، أو مادة للاستثمار، تمامًا، مثل ما يحصل مع نوكيا هذه الأيام.

أمس باعت شركة نوكيا كل الكمية المنتجة من هاتفها الذكي الجديد نوكيا 6 خلال أربع دقائق، البيع أونلاين في الدقيقة الأولى استنفد مليون جهاز، دقيقة واحدة فقط.

كثيرون منا يفكرون بشرائه، سألت كل المحيطين بي فقالوا نعم. وعند سؤالهم: لماذا؟ لا تجد أي إجابة عملية أو تقنية، الحنين هو الإجابة الوحيدة. الخطورة في الأمر أن هذا الحنين يستنفد مع التجربة ولا سبيل للاستثمار به مرة أخرى.

فلو كان المنتج غير منافس فسينتهي به الحال في جوارير وعلب وصناديق تحوي رفات أجداده، احتفظنا بهم من باب الحنين أيضًا. وإن كان منافسًا تقنيًا، فيمكن أن يستقر في جيوبنا ويتخلص رويدًا رويدًا من قداسته. الخلاصة هنا هي أن اللعب مع الحنين ليس سهلًا، ولمرة واحدة فقط على الأغلب.

اقرأ/ي أيضًا:
عن نوستالجيا "إعدادات ضبط المصنع"
عندما ربحت إيطاليا كأس العالم