24-يناير-2020

بدت الحكومة اللبنانية تجسيدًا لما ترفضه الانتفاضة (Getty)

على الـ "CV" سيبدو معظم الوزراء الجدد في حكومة الرئيس حسان دياب من أصحاب الكفاءة. لكن حجم الهوة بين مطالب الناس، وبين الحكومة الجديدة، في طريقة تشكيلها وإخراجها، ولاحقًا في بنيتها، تدل على عمق الأزمة بين اللبنانيين وبينها.

بدا واضحًا أنها ليست حكومة "اختصاصيين"، أو حكومة "إنقاذ"، لأن الإنقاذ كما طالب به اللبنانيون يكون من الذين سمّوا رئيسها، ومن النظام بأسره، وتاليًا من التعقيد الطائفي

 شكليًا، معظم الوزراء قادم من خلفية أكاديمية، تستخدم من مؤيدي الحكومة الحالية كما لو أنها "حصانة". هذه الخلفية، قد تتعزز من نزعة سائدة بتقديس الأكاديميا. لكن في الحالة اللبنانية، ربما هناك أسباب إضافية، أهمها أن اللبنانيين اعتادوا لوقتٍ طويل في السنوات الفائتة على وجود وزراء كانوا قادة في ميليشيات، وشاركوا في الحرب الأهلية، بل في وعي اللبنانيين تورط هؤلاء في ارتكاب مجازر شنيعة.

اقرأ/ي أيضًا: التفاف على المطالب.. لبنانيون يردون على "تشكيل الحكومة" بالاحتجاج والسخرية

لذلك ولعدة أسباب أخرى، يبدو اللبنانيين أكثر ميلًا، للبحث عن الصفة الأكاديمية للوزراء، قبل الحديث عن انتماءاتهم السياسية، من دون أن يلغي تجاهل هذه الانتماءات حقيقة وجودها. لكن فعليًا، لا ينطبق وهم "التكنوقراط" على هذه الحكومة، بل تنطبق عليها مجموعة أوهام، وذلك لتعقيدات الحالة اللبنانية.

بدا واضحًا أنها ليست حكومة "اختصاصيين"، أو حكومة "إنقاذ"، لأن الإنقاذ كما طالب به اللبنانيون يكون من الذين سمّوا رئيسها، ومن النظام بأسره، وتاليًا من التعقيد الطائفي. في الحالة اللبنانية، وبكلمات سياسية لبنانية تقليدية، تعتبر هذه الحكومة من "لون واحد"، على غرار الحكومات التي كان يشكّلها وكيل الوصاية السورية خلال وجود جيشها في لبنان.

 وقد ظهرت هذه "الصيغة" خلال عملية التشكيل، وبعد الإعلان عن الحكومة؛ "تمنى" حزب الله أن تكون من 20 وزيرًا، فقبل الرئيس المكلّف (انسحب الحزب القومي السوري الاجتماعي منها فبقي 19 وزيرًا). "تمنى" الحزب أن يكون الممثلين من "أصحاب الاختصاص"، وليس من الحزبيين، الذين تعفنت صورهم، فكان ذلك أيضًا.

قبل الحديث عن الوزراء، لا بد من الإشارة إلى ملاحظات أساسية، تتعلق بتشكيل الحكومة اللبنانية حصرًا، قد لا تكون مألوفة في البلدان العربية الأخرى. في لبنان، تسمى هذه الحسابات الطائفية ــ المرضية، بالحسابات اللبنانية. وحسب مصادر مطلعة على رحلة تشكيل الحكومة، فإن رئيسها لم يكن موافقًا على تفاصيل هذه "الحسابات"، لكنه عاد ووافق، للإسراع في تشكيلها.

فقبل إعلان الحكومة بقليل، أصر طلال أرسلان على وزيرين للدروز، وليس وزيرًا واحدًا، فحصل على وزيرين. وعادةً ما كان يمثّل الدروز في الحكومات السابقة، الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يترأسه وليد جنبلاط، بوزيرين، مع وزارة دولة غالبًا لأرسلان نفسه، علمًا أن تلك الحكومات كانت تضم عددًا أكبر من الوزارات.

إلى ذلك، ومن الناحية العددية، يمتلك "التيار الوطني الحرّ" الذي يرأسه النائب جبران باسيل، ما يسمّى في لبنان بالثلث المعطّل. ما يعني أن باسيل نفسه لديه الثلث المعطّل، لأن التيار لديه حصة مستقلة عن حصة رئيس الجمهورية، رغم أن الرئيس هو صهر رئيس التيار، وهو الأب الروحي للتيار نفسه. وليس للفصل بين "المحسوبين" على رئيس الجمهورية من الوزراء الجدد، وبين الوزراء الذين اختارهم باسيل (مثل ناصيف حتى للخارجية وماري كلود نجم للعدل)، سوى إصرار باسيل على التصرف كقطب مستقل، والأهم كمرشح ما زال يمتلك حظوظًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة، رغم إعلان اللبنانيين في الانتفاضة رفضهم التام له ولوجوده في السلطة.

أما المرشح الآخر، النائب سليمان فرنجية، رئيس تيار المردة، والحليف التاريخي لنظام الأسد الأب، ومن بعده الأسد الابن، في لبنان، وحليف حزب الله بطبيعة الحال، أصرّ على أن يكون له وزيران، وبالفعل تمت تسمية ميشال نجار وزيرًا للأشغال العامة والنقل، وهي من الوزارات المفضّلة خلال السنوات الأخيرة لفرنجية، ولميا يمّين وزيرة للعمل.

الحضور النسائي في الحكومة ليس لافتًا كما يبدو، وقد بدأ اللبنانيون "يتطبعون" مع حضور المرأة في المشهد السياسي، وهذه من النقاط الإيجابية الرمزية. فهذا الدور أحيانًا يكاد يكون شكليًا، على عكس دور المرأة اللبنانية الأساسي في الانتفاضة. لكن على الورق، تبدو الوزيرات من صاحبات الكفاءة، من دون أن يلغي ذلك أنهن يأتين بخلفية "سياسية" وفي حكومة "سياسية" بامتياز، وتطغى عليها الحسابات السياسية.

وفي السياسة، هناك بحث آخر في الحكومة التي تقدّم نفسها كحكومة تكنوقراط. الوزراء ليسوا محسوبين فقط على الأحزاب، بل الأحزاب حافظت على مواقعها في الوزارات التي صارت تعتبرها احتكارًا لها، باسم الطوائف التي تمثلها. مثلًا، صار ناصيف وزيرًا للخارجية، في الموقع الذي شغله جبران باسيل، وهو مقرّب منه. الأمر نفسه ينسحب على غازي وزني، مستشار لجنة المال والموازنة النيابية في لبنان بين أعوام 2009 و2011، وهو مقرّب من رئيس مجلس النواب نبيه بري، وقد خلف المقرّب الآخر، علي حسن خليل.

ولا يتوقف الأمر على ذلك، ومن دون الحاجة إلى "أدلجة" الانتفاضة، فقد تجاهلت الحكومة الجديدة مشكلة المنتفضين اللبنانيين الواضحة والصريحة مع المصارف. هكذا جاء صاحب التاريخ المصرفي الطويل، راوول نعمة، رئيس مجلس إدارة بنك البحر الأبيض المتوسط، وزيرًا للاقتصاد، وجاء ديميانوس قطار (الذي يقول إنه مع الانتفاضة بينما انتشرت معلومات عن كونه عضو مجلس إدارة في أحد المصارف)، وزيرًا للبيئة والتنمية الإدارية. أما ريمون غجر، مستشار جبران باسيل الآخر، فكان مشاركًا في خطط باسيل للكهرباء. وهي خطط مثل الكهرباء نفسها في لبنان، لم تعرف "النور"، ولم يعرفه اللبنانيون، بسبب أزمتها.

أما وزراء حزب الله ــ ولا أحد هنا أيضًا يمكنه أن يفهم مغزى استعمال مفردات "تكنوقراط" و"اختصاص" ــ فأولهم هو حسن حمد في وزارة الصحة. الوزارة التي آلت إليه من مرشح "تكنوقراطي" آخر، "صودف" أن الحزب عيّنه في حكومة الحريري، وكان جميل جبق. لكن الوزير السابق كان ملتزمًا باختصاصه، أما الوزير "التكنوقراطي" الجديد، فنُقل عنه هجومه المتكرر على الانتفاضة، ووصفها دائمًا بأنها "الحراك الأسود".

 تجاهلت الحكومة الجديدة مشكلة المنتفضين اللبنانيين الواضحة والصريحة مع المصارف. هكذا جاء صاحب التاريخ المصرفي الطويل، راوول نعمة، رئيس مجلس إدارة بنك البحر الأبيض المتوسط، وزيرًا للاقتصاد

وفي موازاة ذلك كله، لم يفهم اللبنانيون الدمج بين وزارتي الزراعة والثقافة، على أن يتولى هذا الموقع الفريد وزير من "حركة أمل". بمراجعة الحكومة السابقة، يصير فهم الدمج سهلًا، إذ كان وزير الزراعة سابقًا تابعًا لحركة أمل (حسن اللقيس)، كما أسمت الحركة وزيرًا آخر للثقافة آنذاك (محمد داوود). وبما أن الوزارتين "محسوبتان" على الحركة، إلى جانب الوزارة الأساسية، وهي وزارة المالية، وبما أن هناك ضرورة لتقليص عدد الوزراء إلى أقل من عشرين، لكي تبدو في هيئة "التكنوقراط"، تم الاتكال على الله، ودمجت الزراعة بالثقافة. وهكذا أُعلنت الحكومة بالتعاون والتفاهم، بين حزب الله والوزير جبران باسيل.