01-مايو-2020

يحيى حسن (1995 - 2020)

لم نعرف شعر يحيى حسن (1995 - 2020) كما يجب، لكنّنا عرفنا قصّته وهذا أضعف الإيمان، مع أن في القصة من الشِّعر ما لا تتسع له دواوين.

ولد هذا الشاعر في بيئةٍ مهاجرة في الدنمارك تعاني أزمة في الهوية، ولأنها على هامش المجتمع المضيف ابتكرت أخلاقياتها المتناقضة، ناهيك عما فيها من العنف المنزلي والتصعب وازدراء القانون؛ الأمر الذي جعل النجاة من آثار ذلك كله غير ممكنة دون معجزات، لتضيف التيارات العنصرية التي سيصاب بسهامها فيما بعد جراحًا أخرى سيعاني بسببها حتى لحظته الأخيرة.

ولد يحيى حسن في بيئةٍ مهاجرة في الدنمارك تعاني أزمة في الهوية، ولأنها على هامش المجتمع المضيف ابتكرت أخلاقياتها المتناقضة

عنف البيت وصرامة غيتو المهاجرين أوصلاه إلى التورّط في عدد من الجنايات التي جعلته ينشأ، خلال مرحلة التأسيس، في إصلاحيات الأحداث، وهناك سيظهر وجهه المتمرد الحقيقي في الكتابة، عندما حوّل العنف الذي عرفه وعاشه إلى قصائد ستشكّل صدمة شعرية لبلد لم يعرف صدمات شعرية من قبل، بلدٍ رغم عدد سكّانه القليل باع فيه الكتاب ما لم يبعه كتاب شعري في تاريخ لغته، ولهذا راحت التيارات العنصرية، بمختلف ألوانها، تسنّ أسنانها للترويج لهذه القصائد كدليل على قبح ثقافة وحياة مجتمع المهاجرين، على مبدأ "وشهد شاهد من أهله".

اقرأ/ي أيضًا: نيلس هاو: في الحرب تكون الحقيقة الضحية الأولى

وبالطبع، لم ينطلِ على نباهة هذا المتمرد الموهوب، رغم حداثة سنّه (نتحدّث عن شاب في الثامنة عشرة من عمره وقتها) مقدار القذارة في ذلك التبني اليميني المزعوم، ولهذا فتح نيران سخطه عليهم، كما سبق وفتح نيرانًا مشابهةً على بيئته الأولى، وانتقل معهم من الصراع المعنوي إلى الصراع المادي، ولهذا عاش تحت حراسة من السلطات في الدنمارك، إلى أن أتى اليوم الذي وقع فيه المتوّقع وأطلق النار من مسدس يخفيه على شاب في ظروف غامضة، فانتهى إلى السجن وانقطعت أخباره.

في عام 2017، دخلتُ إلى ندوة في هلسنكي، عاصمة فنلندا، بمحض الصدفة، دعا فيها "نادي القلم الدولي" ممثليه في كل البلدان الأوروبية، ومن بينهم فرع الدنمارك، وحين فُتح باب النقاش سألتهم عما فعلوه لأجل هذا الشاعر المُلقى في السجن رغم أن قضيته قضية دفاع عن النَّفْس كما هو معروف، فأجابتني ممثلة النادي أنهم بذلوا كل جهودهم لأجل مساعدته، لكنه رافض لمجرد التحدث معهم، وعلى الرغم من أنني حاولت الظهور بمظهر المستاء من تقصيرهم، نبض في داخلي إعجاب مضاعف بكبرياء شاعر من زمن الفرسان.

صور الشعراء الراحلين شبابًا ستظلّ كما هي، حتى بعد أن يشيب من قرأوهم، ومن رأوهم

يأتي الآن خبر موته وحيدًا في غرفته في مدينة آرهوس، ثاني أكبر المدن الدنماركية، ولا تزال الرواية غامضة بخصوص أسباب الوفاة، إلا أنها تُعيد إلى ذهني الحوارات المُصوّرة التي سبق وشاهدتها له على الإنترنت، فأتذكر إعجابي القديم به، لا سيما بالأشعة التي تبرق في عينه أثناء تحدّثه. وقتها اعتبرتها قادمةً من طاقة الذكاء المتفجر فيه، لكنني في هذه اللحظة، لحظة تلقي خبر الرحيل، أحيلها على معنى آخر، على الموت الكامن فيه، الموت الذي وصل إلى مرحلة الإشعاع من عينيه، ليروي بالضوء شكل الحكاية النهائي، ويعيد إلى الأذهان صور الشعراء العظام الذين مرّوا على هذا العالم مرورًا عابرًا، غير أن الأشعة التي بثوها في اللغات والنفوس، وكثيرًا ما ظلّت عصيّة على النقد والبحث، ها هي تأخذ شكلها المفقود، إنها تلك البروق التي تتقادح في دواخلهم لتصلنا على شكل ضوء ترمي به العيون كلما نظرت.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| الشاعر بيتر نوبيرغ: الشعر السويدي معادٍ للاستهلاك

لم أقرأ شعر يحيى حسن سوى في ترجمات متفرقة. في قصائده القليلة المتاحة حكايات عن قهر مبكر، وروح صاخبة برفضها ورغبتها في الفضح والتعرية. روح ولدت لتكون في موقع المناوئ، لكنّ صورته شابًا ستظلّ كما هي، حتى بعد أن يشيب من قرأوه، ومن رأوه، لتقول لمن يبحثون عن السرّ في قصائده إنّ أشعة كثيرةً وصلت إلى اللغة، لكنّ ما لم نعرفه مضى مع الجسد الراحل قبل أوانه، فكثيرٌ من الشعر أسرار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عشرة أمثلة على فظائع شعراء عصرنا

ثلاثة شعراء ومرثية واحدة