27-نوفمبر-2018

الروائية بثينة العيسى

هناك عدّة مداخل لقراءة كتاب "الحقيقة والكتابة" (منشورات تكوين، الكويت 2018) للروائية الكويتية بثينة العيسى، من بين هذه المداخل: قراءة الكتاب بعيدًا عن طبيعته التعليمية (ورشة الكتابة الروائية)، بل قراءته ككتاب نقدي، يبسّط أمام القارئ مادة نقدية، تقترح عليه مجموعة من التقنيات التي هي أيضًا أدوات لقراءة الرواية على نحو أعمق. وثانيًا بوصف الكتاب وليمة من النصوص الروائية العالمية والعربية، التي عرفت الروائية كيف تنتقيها بذكاء ورهافة شديدتين. أما المدخل الثالث، فهو إمكانية قراءة الكتاب من نهايته، أي من مقاله النهائي؛ ففي هذا المقال طرحت صاحبة الكتاب أسئلة جوهرية: هل يُمكن تعلّم الكِتابة؟ ولماذا غابت فكرة الورشة في المشهد الثقافي العربي؟  قالت بثينة العيسى في الكتاب: "أنا سليلة الثقافة العربية، التي تتبنى أفكارًا ميتافيزيقية أو غيبية عن الكتابة. نحن نلجأ، بأريحية مطلقة، إلى تفسيرات ماورائية لكل ما نكتب: الوحي، الإلهام، وداي عبقر، شيطان الشعر. إنّ لدينا إرثًا في هذا المضمار، ولهذا السبب، تبدو فكرة التدريب الإبداعي، مثل ضرب من الهرطقة" (ص 97).

تقدّم لنا بثينة العيسى ما يشبه دليلًا لقراءة الرواية أيضًا، إذ لا ينفصل فعل الكتابة عن فعل القراءة

ما حدث بالنسبة لها، وهي تكتشف تقليدًا ثقافيًا جديدًا هو صدمة ثقافية، دفعت بها إلى مغامرة جديدة وهي خوض غمار الورشات الإبداعية. منها جاءت فكرة هذا الكتاب، الذي هو ثمرة نشاطها في إدارة ورشة الكتابة الروائية.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب الهوامش لإدمون جابيس.. إيقاظ الأسئلة النائمة

ما يهم في هذا الكتاب هو المنهجية التي اقترحتها بثينة العيسى في إدارة ورشة الكتابة الروائية، وهي أيضًا منهجية في قراءة الروايات. القارئ الجيد هو الذي يعرف كيف يجد المسالك الصحيحة في غابة السرد. أما بالنسبة لهذه المنهجية، فقد حددتها في بضعة عناصر: الارتباط الحميمي بالروايات التي قرأتها. فقد استعادت النصوص الجميلة التي قرأتها فأحبتها وتعلّقت بها. فالقراءة محبة أيضًا، قبل أن تكون شبكة من الأدوات والآليات. لقد لاحظنا هذا الشغف وهي تقدم لنا وليمة سخية من النصوص الروائية، من خلال اقتباسات تفتح الشهية لقراءة تلك الروايات، والجميل أننا نعيد اكتشاف تلك النصوص التي قرأناها في وقت ما، وهنا يكمن سحر اللعبة؛ أقصد التدرب على القراءة المتأنية للنصوص، من خلال التركيز على التفاصيل التي لم ننتبه لها في القراءات السابقة.

فلم الاستعجال في القراءة؟ إنّ إدراك ألاعيب الرواية، وتقنياتها، وفنياتها يزيد من منسوب المتعة والإمتاع، عكس ما قد يظنه البعض، من الذين يتمسكون بالمبدأ القائل: الكشف عن أسرار الحرفة سيؤدي إلى إفقادها سحرها. هذا لا يتطابق مع فن الرواية، خصوصًا. بل على العكس تماما، تزداد الدهشة كلما توغّل القارئُ أكثر في أحابيل هذا الفن.

إنّ جوهر العملية التدريبية يكمن في هذه القاعدة الذهبية: "النص سابق على الأداة، وليست الأداة موجودة قبل النص" (ص 98).

من هنا نفهم بأنّه لا توجد أي نظرية متعالية على الفن (الرواية) بل كل عمل فني يحمل نظريته الخاصة، يشبه هذا ما قاله مايكل أنجلو، بأنه يرى منحوتته داخل الصخر حتى قبل أن يباشر في النحت. الفن هو فقط استخراج تلك المنحوتة.

من صفحة مكتبة تكوين في تويتر

لا يُمكن تعلم كتابة الرواية، بل لا توجد قواعد تضمن لك كتابة رواية جيدة، يتوقف الأمر على ما تملكه من قابلية لفهم هذا الفنّ، ومدى قدرتك على تذوقه. الذين يحبون الرواية، يملكون قابلية أكثر من غيرهم لتعلّمها، أو بالأحرى يُدركون بحدوسهم اليقظة تلك المسالك في غابة السرد.

من هو الروائي؟ هو أيضًا صاحب رؤى نظرية حول الفن الذي يمارسه، لأنّه يكتب عن وعي

تقدّم لنا بثينة العيسى ما يشبه دليلًا لقراءة الرواية أيضًا، إذ لا ينفصل فعل الكتابة عن فعل القراءة، وما يؤكد على هذا الترابط بين الفِعلين هو أنّ استنباط قواعد الرواية، يتأسس على قاعدة القراءة الجيدة لها. من هنا، وكما قلنا سابقًا، تساعدنا بثينة على القراءة المتأنية والمتفحصة للرواية، فالانتباه إلى المقاطع السردية، وتخيّرها بدقة، ثمّ تفحّص دقائقها مثل عيون أنثروبولوجي يبحث في تفاصيل منحوتة أثرية، هو أفضل طريقة للتمتع بالرواية؛ إنها فن التفاصيل بالدرجة الأولى، وكثيرًا ما تأتي المُتعة من خلال التنبيه إلى تلك التفاصيل. ليس الحدث العظيم هو ما يصنع رواية عظيمة، بل هو طريقة سردها للحدث العادي. (في هذه الحالة، لا يطرح حجم الحدث في الحسبان).

اقرأ/ي أيضًا: فاس.. المدينة في يوم

وزعت بثينة العيسى كتابها بين المطلب النظري، والذي يظهر في شكل تصورات نظرية لروائيين حول جملة من الآليات الروائية، مثل الوصف، السرد، الشخصية، التخييل، البؤرة السردية، الحكاية... إلخ، وضمن هذا النظام التعريفي تتجلى شخصية الكاتبة بثينة العارفة بهذا الفن، فعلاقتها بالرواية تجاوزت عتبة الشغف إلى عتبات المعرفة بالرواية. من هو الروائي؟ هو أيضًا صاحب رؤى نظرية حول الفن الذي يمارسه، لأنّه يكتب عن وعي. أما المطلب الثاني فهو المطلب النصي، ونقصد به بسط وليمة باذخة من النصوص الروائية العالمية والعربية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا يرحل المبدعون مبكرًا؟

معضلة الأدب العظيم