في زمن أصبحت فيه الفوضى نظامًا، والدعاية يقينًا، والتحايل وجهة نظر، لم تعد الحقيقة في سوريا شيئًا يُبحث عنه، بل سلعة تُصنع وتُسوّق، تُباع لمن يدفع أكثر أو لمن يصرخ أعلى. لم تعد المنصات الإعلامية، سواء الرسمية أو الخاصة، وسائل لنقل الواقع، بل أدوات لإعادة تشكيله، وحَبكِ قصص تُكرر حتى تبدو أكثر إقناعًا من الحقيقة ذاتها.
يستيقظ السوري على أخبار الانهيار الاقتصادي، ينام على وعود الانتصار، ويحلم ليلًا بأن كل ذلك ليس أكثر من وهم. الأسعار ترتفع، وفي الوقت نفسه يُقال: إن الاقتصاد "يتعافى"، والخدمات تنهار، بينما تُبَث تقارير عن "تحسن الأوضاع"، والناس يهاجرون، فيما تُروج صورة "الوطن المزدهر".
وسط هذا التناقض، يتحول تدفق المعلومات المتضاربة إلى سلاح نفسي فعال، يبقي المجتمع في حالة إنهاك ذهني مستمر. وفي خضم هذه الفوضى، يفقد كثيرون القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف، حتى تتلاشى الرغبة في البحث عن الحقيقة، ويصبح الاستسلام للبلبلة أسهل من محاولة فك رموزها. وفي النهاية، لا يبقى أمام الفرد سوى خيارين: الغرق في بحر الأكاذيب أو الانشغال بتفاصيل الحياة اليومية، مثل متابعة أسعار الخضار أو الاستغراق في برامج الترفيه، لأن مواجهة هذا الكم من التناقضات باتت أكثر إرهاقًا من تصديق الكذب نفسه.
ليست الدعاية مجرد أكاذيب صارخة، بل قصص مُعدلة، وحقائق مبتورة، ونصف الحقيقة التي تُقدم بأسلوب مُضلل. يتم التلاعب بالمشاهد، وحذف السياقات، وإعادة تدوير الأخبار وفقًا للمصلحة.
ليست الدعاية مجرد أكاذيب صارخة، بل قصص مُعدلة، وحقائق مبتورة، ونصف الحقيقة التي تُقدم بأسلوب مُضلل
لم تعد المسألة مجرد مواجهة كذبة واحدة، بل كذبتين متناقضتين في الوقت نفسه. بين "المدينة الفاضلة" التي يُروج لها في الداخل، و"الجحيم المطلق" الذي ترسمه بعض وسائل الإعلام الخارجية، تضيع الحقيقة، ويتحول الشك إلى عادة، والصمت إلى ملجأ.
حين تغرق الحياة في سيل من المعلومات المتضاربة، تنشأ آلية دفاعية تُعرف بـ"اللامبالاة المتعمدة". فلم يعد الجدل حول الأخبار مجديًا، وباتت السخرية الطريقة الوحيدة للتعامل مع الواقع، بينما تلاشى الغضب، وصار الاحتجاج بلا معنى.
في الشوارع والمقاهي، لم تعد السياسة موضوعًا أساسيًا للنقاش، بل أصبحت الأولوية لمسائل أكثر واقعية، مثل أسعار المواد الأساسية. وعندما يُطرح سؤال عن الأوضاع العامة، تأتي الإجابات بنبرة ساخرة أو متعبة، كما قالت إحدى السيدات في حلب عندما سُئلت عن التصريحات الإعلامية الأخيرة: "ما عاد يهمني، بس قوليلي بكم صار كيلو البندورة اليوم؟".
لم يكن هذا التعبير عن اللامبالاة جهلًا، بل انعكاسًا لإرهاق جمعي وحالة من الاستنزاف النفسي تجعل التفكير العميق في الأخبار عبئًا إضافيًا، لا طاقة لأحد على تحمله.
في ظل هذا المشهد الإعلامي المضطرب، لا يبدو التصديق المطلق حلًا، كما أن رفض كل شيء يخلق متاهة أخرى من الشكوك. فالحقيقة، إن وُجدت، تبدو أشبه بإبرة ضائعة في كومة من الأكاذيب، ويصبح الوصول إليها بحاجة إلى تفكير أعمق، بعيدًا عن العواطف والانفعالات.
ليس من الضروري البحث عن مصدر واحد للحقيقة المطلقة، فالمقارنة بين الروايات المختلفة قد تكون السبيل لرؤية الصورة الأشمل. بعض التفاصيل قد تكشف أكثر مما تظهره العناوين العريضة، واللغة المستخدمة في الخطابات الإعلامية قد تحمل في طياتها إشارات أكثر أهمية من مضمونها الظاهري.
الفوضى الإعلامية قد تكون سلاحًا، لكنها ليست قدرًا محتومًا. فالمجتمع الذي يدرك أن الحقيقة لا تُمنح، بل تُكتشف، يبقى عصيًا على الخداع، حتى لو أحاطته الأكاذيب من كل الجهات. لم يعد السؤال فقط: "ماذا يجري في سوريا؟" بل أصبح: "كيف نفهم ما يجري دون أن نفقد عقولنا؟".