كان يمكن للعماد ميشيل عون أن يحتفل بنصره عقب إسقاط الرئيس الحريري بصورة هادئة، لا بأس بفتح الـ "شمبانيا" بعيدًا من عدسات الكاميرا، ولا بأس، أيضًا، أن يقتصر قطع الـ "وان واي تيكت" على المركز الذي يعتمده لحجز مقاعد الترحيل السياسي، دون الحاجة إلى الإفصاح الكيديّ عن "إنجاز" لم يُشكل حجر الزاوية فيه، بل كان نتاجًا ملموسًا لشعور متنامٍ حول انتصار محور إقليمي على حساب محور آخذ يتهاوى تحت قبضة الثورات الهادرة.
دخل الحريري إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض رئيسًا لحكومة لبنان، وخرج منه مخلوعًا في بلد لا يحتمل الخلع
كان يمكن للعماد أن يحفظ الود الشخصي مع الرئيس الحريري، وأن يحصر المتحرك الحكومي في إطار النزاع السياسي التقليدي، حاله حال جُل فريقه السياسي، لكن الرجل لم يفعل، بل وآثر تحريك الخنجر في خاصرة سعد الحريري على نحو مؤلم، ضمن مشهد يتخطى، في الشكل والمضمون، أدبيات الاختلاف السياسي والصراع التقليدي على السلطة، ليتحول إلى ضربة مزدوجة تطال شخص الحريري، وتجمع بعض فتات الشعبوية، عبر القول، ولو بشكل موارب: أنا المسيحي القوي الذي استطاع أن يقتلع السنيّ الأول، ومن خلفه محورًا عملاقًا يمتد من الخليج إلى واشنطن، مرورًا بصنّاع القرار في القارة العجوز.
دخل الحريري إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض رئيسًا لحكومة لبنان، وخرج منه مخلوعًا في بلد لا يحتمل الخلع، احتفل "الثلث الضامن" بسحق اتفاق الدوحة في منزل الجنرال ضمن جو من الكيدية الفاقعة، وعلى وقع ضحكات استفزازية أقرب ما تكون إلى الشماتة، لكن صاحب الدار لم يشفِ غليله بعد، فهو منشغلٌ بالبحث عن الضربة القاضية، وفي باله فكرة واحدة: أريد تمزيق هذا الرجل، أريد شطبه من يوميات اللبنانيين، أنا ميشيل عون، الجنرال المتخصص في حروب الشطب ومعارك السحق والإلغاء!
عاد سعد الحريري إلى بيروت وفي قلبه غصة لا يُحسد عليها، التقى الرئيس ميقاتي في داره عقب تكليف الأخير بتشكيل الحكومة، ضمن زيارة تقليدية يفرضها برتوكول التكليف، بدا المشهد دراميًا إلى حدود الاستفزاز، فملامح الرجلين كانت تشي بالكثير، وكانت الجلسة أشبه باجتماع بين قاتل وقتيل، على بحر من الدماء، وجبال من الجثث.
غادر الحريري لبنان في رحلة أشبه بذهاب دون عودة، قال إنه اغتيال سياسي يوازي أو يضاهي قتل رفيق، صمت طويلًا، وكأنه كان يدرك بأن فرصة الانتقام، ولو المعنوي، آتية لا محالة، وبأن التاريخ لا بد أن يمد لسانه ساخرًا لمن اعتقد، ولا يزال، بأن سياسة الشطب والإلغاء قد تؤتي أُكلها في هذا البلد المستحيل.
ميشيل عون يريد أن يصبح رئيسًا، وطبعًا، لا سبيل إلى ذلك دون موافقة الحريري، ولأن الرئاسة تقتضي التنازل، سارع التيار الوطني الحر إلى الانفتاح على تيار المستقبل، تلقف الحريري الإشارة، فأعلن الانفتاح على الجميع، وأكد عدم وجود "فيتو" على أحد، والأحد هنا هو ميشيل عون.
حل النائب سليمان فرنجية ضيفًا عزيزًا في منزل الحريري، اتفقا على وضع حد للشغور، وقال له: إنت الريس يا سليمان
حط الجنرال سريعًا في باريس، وتحديدًا في منزل الرجل الذي قطع له تذكرة رحيل بلا عودة، تعامل الحريري مع ضيفه بمنتهى اللطف، وكاد أن يقول له: "جهّز الطقم الأبيض لزوم الصورة في بعبدا"، عاد عون مزهوًا، سهّل تشكيل حكومة الرئيس سلام، شكر الرئيس الحريري على وطنيته، وبدأت رحلات الذهاب والإياب من الرابية إلى السفارة السعودية وإلى المملكة وإلى بيت الوسط، ودائمًا على وقع خطاب هادئ ومنفتح يُحاكي العمل السياسي في المدن الفاضلة.
تبيّن لاحقًا بأن الحريري يناور، تقول مصادر عون، وبأن الأخير أصيب بشكل عميق جراء هذه المناورة، وهذا أمرٌ لا لبس فيه، فالرجل "العنيد" الذي أحرق كل المراكب مع جُل الكوكب، اضطر أن يركب طائرة سعد الحريري، وأن يغيّر خطابه وأدبياته، وأن يجمّد كل وسائل التحريض على الحريرية السياسية، من "الإبراء المستحيل" إلى التصويب الإعلامي، وصولًا إلى لجم نوابه، عبر تعميم حازم يمنع الاقتراب من الرجل وتياره، بل ومدح سياسته الرزينة وعقله الراجح وجمهوره المعتدل!
سعد لم يكتفِ بعد، هو يريد أيضًا أن يحرك الخنجر في خاصرة عون، ولكن بلا ضجيج. وعليه، حل النائب سليمان فرنجية ضيفًا عزيزًا في منزله، اتفقا على وضع حد للشغور، وقال له الحريري: إنت الريس يا سليمان. نزل الخبر كالصاعقة على مسامع الجنرال، أوفد عراب اللغة العربية إلى منبر الرابية وفي صحبته عبارة توحي بالكثير، قالها سليم جريصاتي: "سليمان فرنجية عضو التكتل"، وعضو تكتل عون لا يُغرد خارج سربه. كانت عبارة عملاقة، كونها تنم عن وافر القهر الذي شعر به الجنرال لحظة اجتراحها ... إنها الأنسب يا سليم، أقصفها في وجهه!
لاحقًا، توقفت سيارة فرنجية أمام منزل الجنرال، دخل الرجل منفردًا، لا أحد في استقباله، جلس إلى جانب عون في مشهد مماثل لجلوس ميقاتي في حضرة الحريري، بدا الرجلان وكأنهما يجلسان أيضًا على بحر من الدماء والجثث، وحده الحريري كان فرحًا خلف تلفازه في باريس أو الرياض، وربما قال لمستشاره هاني حمود، "تعا يا هاني شوف الجنرال"، فرد الأخير: "ضربة معلم"، وضحكا طويلًا.
انتهت الجلسة بين عون وفرنجية على وقع جو من التوتر المتعاظم بينهما، وما هي إلا أيام، حتى أطل الأخير عبر مقابلة تلفزيونية وفي فمه كلام كثير، قال أخبرت نصر الله بكل شيء، قبل الزيارة وبعدها، شعر عون حينها أن الخنجر انتقل من خاصرته إلى رقبته، راح فرنجية يُقلب المواجع تباعًا، لقد زرت الأسد، الأسد معي، وكذلك أمريكا وفرنسا وجلّ عواصم القرار، شعر عون بأن الخنجر استبدل بسيف رشيق.
وحده الحريري من شعر بفرح عظيم، إنه القبر الذي حفره لي، ربما قال الرجل مُعلقًا، وفي مخيلته صورة لا تفارقه: الجنرال قطع تذكرة اغتيالي، وها أنا أرد له الصاع صاعين.
اقرأ/ي أيضًا: