08-يناير-2023
موريس مرلو بونتي

موريس مرلو بونتي (1908 - 1961)

استطاع الفيلسوف الفرنسيّ موريس مرلو بونتي (1908 - 1961) أن يقرأ الظواهريّة من كينونتها المركزيّة، أي البحث في بؤرتها، خصوصًا في كتابات الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859 - 1938) المتأخرة، وبذلك يكون البحث في خاصيّة الإنسان بوصفه كائنَ العقلِ مرتكَزًا لفهم الكينونة الإنسانيّة.

وبين الفهم العام، والفهم المدرك جمعت كتابات مَرلو بونتي بعدين أساسيينِ، هُما: الظواهريّة، والوجوديّة على الرغم من الاختلاف الفكريّ بين البعدين، لكنَّ التقارب بينهما ممكن، خصوصًا في فهم القضايا الإنسانيّة. وكانت عُصارة هذه الأفكار مجموعة من الكتب أهمّها: كتاب بنية السّلوك، وكتاب ظواهريّة الإدراك.

موريس مرلو بونتي: "وإذا كُنتُ أفكّرُ يعني ذلكَ أنّني أرتمي في أفكارٍ مؤقتة، وأتجاوز بواسطة الواقع تقطّعاتِ الزّمن"

 

من كتاب ظواهريّة الإدراك قدّم مَرلو بونتي فلسفة الأنا والآخر، بقوله: لستُ أنا مَنْ يراه الآخر، وليسَ الآخر من يراه أنا، إنّ تلك الفلسفة تنقلنا للمعقول الخارجيّ، أي تأكيد وجود الأفق لذات الآخر. هذا الأفق الذي جعل من الحريّة منطلقًا للتفريق بين الكائن لذاته، والكائن في العالَم.  جاءت معالم الحريّة بعد أنْ قدّم موريس فلسفته للكوجيتو الدّيكارتي؛ إذ كانت خلاصة فكره، أن يعيد إلى للكوجيتو الكثافة الزمانيّة: "وإذا كُنتُ أفكّرُ يعني ذلكَ أنّني أرتمي في أفكارٍ مؤقتة، وأتجاوز بواسطة الواقع تقطّعاتِ الزّمن".

إنّ من أوّل معالم الحريّة التي حدّدها مَرلو بونتي ذلك الصّراع بين الوعي والشيء؛ وبالتالي يكون المَعْلَم الأوّل من معالم الحريّة هي الشموليّة، فلتمكين شيء ما أن يحدّد النّفس من الخارج، يجب أن تكون النفس شيئًا، وليس من المعقول أن تكون حرًّا في بعض الأفعال ومحددًا بأفعال أخرى، وهنا يكون جزء من حريّات الإنسان معطّلة، لا يمكن أن يكون الإنسان حرًّا قليلًا.

المَعْلَم الثاني من معالم الحريّة: غيابُ السببيّة، وغياب الدّافع، حيث وجب على الإنسان أنْ يوقن بأنّ الحالة الّتي هو فيها بسبب (الطّبيعة، التّاريخ، الجَمال، القُبح، الدّيانة) فهذه الأشياء لا تملكها النّفس بالنسبة لها، بل تملكها النّفس بالنسبة للآخرين، وهنا يكون الإنسان حرًّا بأن يطرح الآخر بوصفه وعيًا تطاله نظرات الآخرين داخل كينونته، أو بالعكس يطرحه كمجرد موضوع.  

المَعْلَم الثالث للحريّة: قصور الإرادة، وهنا يقدّم مرلو بونتي مفارقة في هذا المَعْلَم، إذ من المعلوم بأنّ الإرادة هي المحرّك الأوّل للحرّية؛ ولكنها داخل الفعل الإراديّ فعلٌ ناقصٌ؛ فلجوء الإنسان للفعل الإراديّ هو معارضة للقرار الفعليّ، وبالتالي يكون التصميم دلالة على الضّعف. المَعْلَم الرّابع: لا يستطيع أحد أن يحدّ من الحريّة؛ الشّخص لا يملك سوى الخارج الذي يعطيه لنفسه. وإن كانت هذه المعالم جزءًا من فهم كينونة الحريّة القصديّة، فإنّ المعالم تزيد أو تتسع وفق أبعاد القراءة الفهميّة.

لعلّ خلاصة فلسفة مرلو بونتي تكمن في الآتي: إنّ الحريّة في كلّ مكان، وهي أيضًا ليست في أيّ مكان، الحريّة لا يمكن أن تعبِّر عنها إلى الخارج، وهي أيضًا لا يمكن أن تقيم داخل حياتنا، يجب أن يكون للحريّة حقل معيّن، الحريّة لا يمكن أنْ تكون إذا لم تكن هناك دورات سلوكيّة. إنّ الحريّة هي دائمًا التقاء الخارج مع الداخل، وبالتّالي إنّ ملامسة الأفعال وعلاقة الإنسان مع الحريّة يجب أن تكون داخل إطارين: حقل حريّة- حريّة مشروطة، وهذا هو مطلق الفلسفة الظاهريّة للحريّة، أي أنّها ليست حريّة مطلقة في حدود هذا الحقل، وليست ملغاة خارج حدود الحقل نفسه، إنّ لفظة (أنا حرّ) لا تحد من دخول النفس في العالم، بل هي بالعكس وسيلة للاتصال معه.