03-يناير-2025
عقد اجتماعي جديد في سوريا

فتاة تصور صورة ممزقة لرئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد (رويترز)

تجد سوريا نفسها اليوم عند مفترق طرق بعد سنوات من الحرب والتدمير والفناء المادي والمعنوي. لم تكن سنوات الدم واليأس السابقة انعكاسًا لصراعات سياسية أو اقتصادية وحسب، بل كانت أيضًا نتاجًا لتراكم طويل من الفشل في إدارة الدولة والمجتمع. وعلى هذا لا يمكن اعتبار سقوط النظام إلا فصل جديد للتحدي السوري التاريخي، الذي ينبغي علينا جميعًا أن نجيب على أهم أسئلته: هل يمكن أن تتحول الحرية المكتسبة إلى فرصة حقيقية لإعادة بناء الوطن؟ أم أن الماضي بكل أعبائه سيظل يطارد الحاضر والمستقبل؟ 

بنى نظام الأسد الأب اقتصاده، منذ سبعينيات القرن الماضي، على موارد ريعية محدودة مثل النفط والزراعة، مما مكنه من تحقيق نمو اقتصادي سريع خلال العقد الأول من حكمه. ثم توسعت الدولة في تأميم المؤسسات الاقتصادية والسيطرة المركزية بطريقة أدت إلى استنزاف الموارد. ومع دخول عقد الثمانينيات من القرن نفسه، أدى انخفاض أسعار النفط وتراجع المساعدات الخارجية إلى كشف هشاشة البنية الاقتصادية، حيث عانت البلاد من تضخم وبطالة مرتفعة.

في التسعينيات، مع تحول العالم إلى اقتصاد السوق، حاولت سوريا أن تتبنى بعض الإصلاحات، لكنها كانت خجولة ومحدودة بسبب مقاومة النخبة الحاكمة لكل ما يمكن أن يهدد مصالحها.

بنى نظام الأسد الأب اقتصاده، منذ سبعينيات القرن الماضي، على موارد ريعية محدودة مثل النفط والزراعة، مما مكنه من تحقيق نمو اقتصادي سريع خلال العقد الأول من حكمه

على هذا كله يمكن القول إن الانهيار الاقتصادي السوري لم يكن نتيجة ضعف الموارد فقط، بل كان انعكاسًا لعقلية إدارة ترى في الدولة مجرد أداة لتكريس الهيمنة السياسية. 

أدى غياب الرؤية التنموية الشاملة وافتقار التخطيط الاقتصادي إلى الكفاءة إلى خلق اقتصاد يعتمد على الإنفاق العام العشوائي، مع تجاهل الاستثمار في القطاعات الإنتاجية طويلة الأمد. هذه الاختلالات البنيوية جعلت سوريا عرضة للأزمات بمجرد حدوث تغييرات في السياقات الإقليمية أو العالمية. 

ومع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا كله كان يسير إلى جانب فساد عميق شمل كل مناحي الحياة، إلى درجة وصول البلد إلى مستوى مأساوي من الفقر وغياب الخدمات، ومع سقوط النظام ظهر الوجه الحقيقي لإرث الفقر المدقع وتدمير البنية التحتية وخذلان الإنسان السوري. 

ولعل أهم ما يمثله هذا السقوط هو أنه يشكل فرصة لإعادة بناء اقتصاد يعتمد على رؤية مستدامة. لهذا فإن إعادة الإعمار تحتاج إلى خارطة طريق واضحة، تشمل تحسين البنية التحتية وبناء مساكن جديدة تُلبّي احتياجات السكان، مع ضمان إشراك السوريين أنفسهم في هذه العملية لتعزيز الشعور بالملكية، كما تتصلب تحفيز الاستثمار من خلال تقديم ضمانات للمستثمرين بحماية أموالهم من أي تدخل سياسي أو أمني.

لا يمكن لأي خطة لإعادة الإعمار أن تنجح دون تحقيق العدالة الاجتماعية. لهذا يجب أن تتم معالجة التفاوتات الاقتصادية التي تعمقت خلال العقود الماضية، والتي استفادت فيها النخب المرتبطة بالنظام من موارد الدولة، وعلاجها يكون من خلال إعادة توزيع الثروة وضمان حقوق الفئات الأكثر ضعفًا.

أما الزراعة، التي تشكل شريان الحياة للسوريين، فهي لا تزدهر إلا في ظل استراتيجيات طويلة الأمد، تشمل تحسين أنظمة الري وتوفير الدعم المباشر للمزارعين. وبالتوازي مع ذلك، ثمة أهمية كبرى في سوريا الجديدة لإصلاح النظام الصحي، عبر بناء مستشفيات جديدة أو إعادة تأهيل المستشفيات المدمرة، وعبر توفير المعدات الطبية اللازمة لضمان خدمات صحية شاملة. إلى جانب دعم الكوادر الطبية ببرامج تدريب للأطباء والممرضين، وتشجيع الكفاءات الطبية السورية في الخارج على العودة.

من الملفت للانتباه أن مدينة دمشق، كما تظهر في الصور الجديدة بعد الحرية، تبدو وقد تحولت إلى رمز للإنهاك والتعب، ولم تعد كما كانت من قبل رمزًا للثقافة والحضارة، ولهذا تطرح علينا صور دمشق ضرورة التفكير بالمدن السورية المنهكة والمتعبة والتي تغيب عنها مختلف الخدمات، كما أنها تفتقد لكل المرافق الحيوية.​

لا تقتصر إعادة بناء المدن السورية على المباني، بل هي فرصة لاستعادة هوية هذه المدن كمراكز للثقافة والحياة الاجتماعية. يمكن أن تصبح دمشق وحلب وحمص نماذج لمدن حديثة تعكس تطلعات السوريين في الحرية والمساواة، مع التركيز على خلق بيئة مستدامة تحترم التراث الثقافي والحضاري.

من هنا، تتطلب هذه المرحلة الحساسة قيادة حكيمة، واستراتيجيات تضع مصلحة الشعب في المقدمة، في مقدمتها تتجاوز إرث الفساد والقمع في النظام السابق.

لا يمكن لأي خطة لإعادة الإعمار أن تنجح دون تحقيق العدالة الاجتماعية. لهذا يجب أن تتم معالجة التفاوتات الاقتصادية التي تعمقت خلال العقود الماضية

ليس ثمة خيارات كثيرة، فإما أن تتبنى سوريا نهجًا يعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمساواة والشفافية، أو أن تغرق في الفوضى والانقسامات. أمران لا ثالث لهما: النهوض أو السقوط في الظلام. 

والنهوض الذي نتحدث عنه لا يمكن أن يحدث إلا مع دولة موحدة، تنبذ الطائفية وتعتمد على العدالة والمساواة كأساس للحكم. وبهذا المعنى فإن الأصح أن إعادة البناء ليست فقط عملية اقتصادية أو سياسية، بل هي فرصة لتجديد العقد الاجتماعي بين السوريين.

العقد الاجتماعي الجديد يجب أن يعكس تحولات عميقة في الوعي السوري العميق. وهذا يتطلب ضمان شراكة متوازنة بين الدولة والمجتمع، حيث يلعب المواطن دور الشريك في صنع القرار. بناء هذا العقد يتطلب حوارًا وطنيًا شاملًا يضم جميع الأطراف السياسية والاجتماعية، مع التزام حقيقي بالعدالة الانتقالية لتعزيز المصالحة بين مكونات الشعب السوري.