26-يونيو-2016

الحرديم هم مجموعات دينية يهودية أصولية تلتزم بالحياة التقليدية القديمة، وبالتعاليم الحرفية للتوراة (Getty)

حسب معظم نظريات علم السكان، فإن التحول الديموغرافي الحاسم يبدأ مع دخول المجتمعات إلى مرحلة التحديث، بحيث يرتفع عدد السكان ارتفاعًا كبيرًا مع دخول التحسينات الطبية، وارتفاع معدل عمر الإنسان. لكن الخصوبة سرعان ما تعود وتنخفض انخفاضًا حادًا نتيجة دخول ثقافة الحداثة، حتى تصل كما هي الحال في معظم المجتمعات الأوروبية الصناعية إلى ما دون الطفلين، أي أن عدد السكان يبدأ بالتناقص.

تحصل مجموعات الحرديم على امتيازات مادية حكومية، وتصل مستويات اقتصاد بعض مستوطناتهم إلى مستويات اقتصاد المراكز الكبرى في إسرائيل مثل تل أبيب

لكن الحالة في إسرائيل مختلفة اختلافًا شديدًا، إذ إنها تعتبر المجتمع الصناعي شبه الوحيد الذي تزداد فيه الخصوبة في السنوات العشر الأخيرة. إضافة إلى ذلك فإنها على عكس أغلبية المجتمعات الإنسانية جميعها، التي رغم أن عدد سكانها بازدياد إلا أن الخصوبة -معدل عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة- في تناقص، والحال تنطبق على المجتمعات العربية جميعها التي تتناقص فيها الخصوبة أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: ماهي تأثيرات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟

تركت هذه الزيادة سؤالًا شاغلًا في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية، لكن هناك إجابة أولية متفق عليها، وهي دور المتدينين الحرديم في تكوين هذه الخصوصية، إذ تشير التقديرات أن معدل الخصوبة عند الحرديم مرتفع جدًا، إذ يصل إلى 8 أطفال لكل امرأة، وأن عدد الحرديم ونسبتهم من إجمالي المواطنين الإسرائيليين في تزايد، بالتالي فإن تأثيرهم على الخصوبة الإجمالية يرتفع سنة بعد أخرى.

والحرديم هم مجموعات دينية يهودية أصولية، تعود جذورها إلى التاريخ اليهودي في أوروبا في القرن التاسع عشر وثقافة منعزلات الييدش، وتلتزم بالحياة التقليدية القديمة، وبالتعاليم الحرفية للتوراة، حتى في الأمور التي تتناقض مع طبيعة الحياة الجديدة والتكنولوجيا. بالتالي فإنهم يعتقدون أن الدولة اليهودية في إسرائيل يجب أن تسير على القواعد التوراتية بأدق تفاصيلها، رافضين إحداث أي تغيير.

اقرأ/ي أيضًا: خطوات الحكومة المصرية لإعادة اتفاقيتها مع السعودية

ولذلك فإن الدولة في إسرائيل مجبرة على التعامل بنظام فصل حاد بين المتدينين والعلمانيين، فيما يتعلق بالتعليم أو بالصحافة وحتى البنية التحتية! حتى أن وحدات خاصة في الجيش الإسرائيلي تشكلت خصيصًا للحرديم. والأهم أن جهاز التعليم منفصل إذ لا يدخل أبناؤهم المدارس أو الجامعات والكليات العصرية، ولكن يكون لهم مدارس خاصة للتعليم الديني فقط، والتخصص بالكتب الدينية، كما أنهم حاصلون على امتيازات في تأخير الخدمة العسكرية، إضافة إلى تخصيص أعمال خاصة ومنفصلة للنساء المتدينات اللواتي يعملن نيابة عن الرجال المنشغلين بتعليم وتعلم الكتب المقدسة في معظم الوقت، إضافة إلى ذلك فإن دعمًا ماليًا رسميًا لهذا التفرغ يشكل امتيازًا لهذه المجموعات، وعبئًا على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

عمومًا فإن تفسير زيادة الخصوبة في إسرائيل على أساس عقيدة هذه المجموعات ليس تفسيرًا وافيًا، لكن دراسات عدة تفيد إلى أن هذه الإجابة وحدها لا تكفي، مثلها مثل أي تحليل ثقافي ديني، إذ إن هناك مجتمعات كثيرة تصل نسبة المتدينين فيها أكثر مما تصل في إسرائيل، ومع ذلك فإن الخصوبة فيها في هبوط مثل دول عربية مختلفة. وأن الإجابة تتطلب قراءة لسياسات الحكومات الإسرائيلية تجاه الحرديم، الحكومات التي تتفق من يسارها إلى يمينها على دعمهم ودعم تفرغهم الكامل للتعلم الديني وللعبادة، وللإنجاب على ما يبدو.

تحصل هذه المجموعات على امتيازات مادية عالية، وتصل أرقام اقتصاد بعض المستوطنات الموجودين فيها إلى ما يتساوى مع اقتصاد المراكز الكبرى في إسرائيل، مثل تل أبيب، وهو على ما يبدو نتيجة للتهويل من أثر الصراع الديموغرافي الذي ينشغل به ديمغرافيون كثر في إسرائيل، خاصة من بداية الألفية الثالثة، التهويل الذي تشير دراسات إلى حجم تأثيره على صناعة القرارات المصيرية، مثل الانفصال عن غزة الذي يضع البعض له تفسيرات متعلقة برغبة إسرائيل بتحقيق توازن ديموغرافي. وقد يكون هناك أسباب أخرى غير الهوس بخطر تزايد السكان الفلسطينيين، وهو الدور السياسي البارز الذي يلعبه الحرديم نتيجة أعدادهم الكبيرة، ما يدفع السياسيين إلى محاولة إرضائهم دائمًا.

ورغم ذلك، فإن تخوفات كبيرة موجودة من هذه المجموعات، حتى أن أحياء كاملة يهرب منها سكانها مع بداية دخول المتدينين إليها. وقد بلغ النقاش عن خطرهم أوجه في الفترة الأخيرة، خاصة مع توقعات لزيادة نسبتهم في السنوات العشرين القادمة، ما يهدد علمانية المجتمع الإسرائيلي المزعومة.

مثار العجب في الأمر أن الأسس التي يرتكز عليها السلوك الجمعي للحريديم، منتج يهودي أوروبي بامتياز على الرغم من سطوة التعاليم التوراتية، إلا أن النخبة الصهيونية ذات الأصول الأوروبية، أشكنازية وغربية، العلمانية والليبرالية المتمركزة في صحف تل أبيب ومراكز أبحاثها ودوائر صنع القرار فيها، تنظر بعين التعالي للحريديم وتضعهم في ذات السلة العنصرية التي سبق ووضعوا فيها اليهود العرب والشرقيين، معتبرين كلا المجموعتين تشويهًا لصورة "إسرائيلهم"، ما يعلن عن أحد أوجه صراع الهوية على الساحة الإسرائيلية. 

اقرأ/ي أيضًا:

 مصر.. ثعابين في زنازين المعتقلات