05-ديسمبر-2015

مقاتل في الحرب اليمانية (Getty)

بالنسبة لغير اليمنيين تعد دعوات السلام في اليمن فألًا طيبًا، لكن كثيرًا من اليمنيين ينظرون إليها بعين الريبة، منطقيًا، السلام كارثة على اليمنيين، فهم لم يعرفوه إلا استراحة بين حربين، وإذا لا بد من حرب مصيرية مع هذا الصرع اﻷزلي.

التئام الإمامة الزيدية بالبنية القبلية في الشمال اﻷقصى لليمن، أوجد منظومة ثقافية ودينية في خدمة فكرة السلطة

اﻷزمة اليمنية ليست طارئة، لا في هذا العام ولا منذ انتفاضة 2011، اﻷزمة اليمنية معمرة، وتتعلق بأنثروبيولوجيا المجتمع اليمني، غير أن الشمال اﻷقصى أو ما يطلق عليه "شمال الشمال"، ظل اﻷكثر قلقًا وبلبلة خلال هذا التاريخ الطويل. التئام الإمامة الزيدية بالبنية القبلية في الشمال اﻷقصى لليمن، أوجد منظومة ثقافية ودينية واجتماعية وسيكولوجية في خدمة فكرة السلطة، وخلال قرون ظل المجتمع قبليًا ومحاربًا على فطرته مع بعض اختراقات صنعتها صيرورة اﻷحداث عبر مسار التاريخ في وعي هذا المجتمع، محصلتها: مجتمع قبلي، محارب وغنائمي وموال.

ليس فيما سبق جديد بالنسبة للمطلعين على تعقيدات هذا البلد والراسخون في بلواه، الجديد هو ما سيأتي، إن لم تعد بالظفر كيف تصنع فرصتك القادمة فيه. مبدئيًا، أزعم أن هناك منظومة تفكير مسيسة لجماعة شوفينية متطرفة ودعية متدثرة بمظلومية مبالغ فيها، تشبه في حركتها وتكتيكاتها واستغلالها نمط الحركة الصهيونية أو ﻷقل نمط النخبة الصهيونية، مع فارق أن الإثنية التي أتحدث عنها حكمت وملكت ومكنت وتبوأت مكانًا عليًا. ولقد طال اﻷمد بهذه الأخوية، بفضل الحروب والفتن، بل لدي حدس أنها أسست للمبدأ الاستعماري الشهير "فرق تسد"، لا تفسير واضح للعلة من وراء ذلك، لكن ربما ارتباطها اﻷنثروبيولوجي بفارس، وهي إحدى قوميتين نخرتا عضد الدولة العباسية بالفتن الطائفية، كرهًا في العرب ودولتهم، ساهم في صناعة خصائص هذه اﻷخوية المتسلطة.

بيد أن الغريب والطريف لعموم الجاهلين بشؤون الخبث السياسي أمثالنا أن نقع في فخ استيعاب أن هذه اﻷخوية لا تتوقف عن لهثها العجيب للسلطة المستقى من إيمان بالحق الإلهي، إلا لإعادة تهيئة نفسها لسجال قادم، هذا يعني أن كل ما شربته من دمائنا لم يشبع نهمها غير أن اللحظة لم تسعفها لاستكمال المشروع، وغالبًا ﻷنه قد عسر عليها ابتلاعنا، مع هذا فإن المعركة ما زالت مستمرة وما هي إلا استراحة محارب وتعاود الكرة من جديد لابتلاعنا.

على هذا القياس، فإن دعوات السلام اليوم ليست سوى محاولة إعادة بناء لقوة المعتدي الداخلي في اليمن والذي لم يشهد له التاريخ منذ قرون أنه انتصر على غاز، أو ذاد عن الوطن، إذا لا تتعدى حروبه عنصر السيطرة على السلطة وإقامة حكم ثيوقراطي كهنوتي مستبد محملا بالفساد والتحايل والتجهيل والاستبداد والنهب والعبث بالعقول والإهانة المهولة ﻵدمية الإنسان وكرامة ما يعتقد أنه شعب حر.

السلام في اليمن ليس سوى معسكر تدريب وتهيئة لبدء حرب طغيان جديدة

إن هذا المعتدي، وهو على ما قضاه من الدهر في مراكمة الثروة وأدوات القتل وإثارة النعرات والعصبيات واستدعاء الجمعية العمومية ﻷخوية المنتمين إلى السلالة بما يملكوه من إمكانات وعلاقات ونفوذ بحكم تاريخ طويل من التموضع السري والخطير في كل مفاصل القرار والتأثير في الدولة والمجتمع والدول والمجتمعات الأخرى القريبة، يدخل إلى معركة الاستحواذ هذه محملًا بسجل ضخم من أسماء أبناء العمومة، أصحاب المصالح والشهوات، الطامعين في الكثير، وحين تتعكر عليه الحال، يطلب التفاوض في لحظة ما يزال فيها قادرًا على التماسك، وحين يطلب ذلك ويغريك بالسلام، فإن قبولك يعني الموافقة على شروطه، أي أن الفارق الفعلي بين الحرب والسلام هو أنك تقوم بما يريد في الحالتين مع فارق بسيط: أنت موجود صوريًا في الحكم.

بوسع الحوثيين، وهم الوكلاء المعاصرون لهذه اﻷخوية ودعوتها العرقية المستغلة النتنة، وبامتداد أبناء عمومتهم وداعميهم في اليمن والخليج وإيران وحتى دول الغرب "أعني النخب التي تلعب دور اللوبي الدبلوماسي لصالح الأخوية"، أن يطلبوا السلام أو يستخدموا النخب التي تعمل معهم وﻷجلهم، غير أنهم وعبر التكتيك وأثناء التفاوض سيقدمون جملة مطالب واشتراطات تبدو ذاتية، غالبًا تسعى لتقوية مركز أخويتهم في مواقع السلطة، إلى ذلك، ستحافظ طلباتهم على عناص انتعاش دعوتهم، أي لا تغيير في المجتمع، مضافًا إليه؛ إن منطلق التفاوض قائم على كف اﻷذى بتسوية سياسية مقابل تلك المكاسب، ثم كي تستوعب كيف أن كل تلك الضربات لم تدفع هؤلاء الناس لطلب السلامة والكف عن نزوعهم الغريب للقتل، سيكون عليك أن تفهم أن لا قيمة عندهم للأرواح، فعموم الناس بالنسبة لعرقهم السامي ليسوا سوى أدوات لسيادة عصبيتهم، يتساوى في هذا المحارب معهم أو عليهم، مع فارق أن كل نواح مستأجر يقيموه على خسارتهم، إنما يستدعون به نعرة.

في هذه الحال، وكما أوضحت مطلع هذه المقالة، فإن السلام في اليمن ليس سوى معسكر تدريب وتهيئة لبدء حرب طغيان جديدة، أقول وأنا في صف المعتدى عليهم والموجوعين بخسارة لا تعوض، علام السلام إذن؟ إن كان النصر سيقتل ألفًا مثلًا فإن السلام سيقتل لاحقًا ثلاثة أضعاف أو أكثر، لتكن حربًا أخيرة ومصيرية تخلص اﻷجيال القادمة، فلا سلام مع معتد لم يقر بخطئه، ولم تزل أسباب عدوانه ولا فرص تكراره، ولا يؤمن جانبه ولم تقص مخالبه، ولم تنقض نعرته النتنة.

اقرأ/ي أيضًا:

إنسان بلا ماركة لكنه باهض التكلفة

الفناء للعالم.. الخلود لتعز..!