19-أكتوبر-2015

المسرح مقصوف لماذا يريدون زيارته؟

هل انتهت الحرب حقًا؟ أم أنّنا نتوهّم؟ ماذا يعني أن يعيش العالم بسلام؟ أو على الأقل، كيف للفلسطيني أن يعيش بسلام؟ وكيف له أن يعايش تفاصيل حياته دون بؤس؟ لا بداية ولا نهاية، الموت يلاحقنا باستمرار. وجوه، أسامي، شوارع، والآن أماكن، ومسرح في بالي أعادني إلى صيف العام الماضي. الحرب الثالثة على قطاع غزّة.

بدا الأمر غريبًا بعض الشيء، ومثيرًا، حينما هاتفتني العزيزة رهام الغزالي تودّ اصطحابي إلى أحد المسارح في قطاع غزّة. بطبيعة الحال لم أتردّد وأجبتها "أكيد، سوف أحضر معك". فأتت لتأخذني على الفور ومن ثمّ اتجهنا للمكان مباشرة.

جلسنا معًا في السيارة، ورافقنا صديقا رهام. جلست بجانب الشبّاك، أخذت أتأمّل الطريق، هذه التي لم أزرها منذ رحلات المدرسة، تقودنا السيارة نحو أقصى شمال غزّة. وأنا، لا أزال أتأمّل، أفكّر، وأسرح. هذا المسرح كنت قد زرته حينما كنت في المرحلة الابتدائيّة، كيف صار شكله الآن؟ يا إلهي! منتجع النورس السياحي كان أشهر من النّار على العلم! لماذا انطفأ هكذا؟ حسنًا، منذ الانقسام الفلسطيني عام 2007 وهو منطفئ كسائر المنتجعات الأخرى والتي كانت تتبع لقيادات في السلطة الفلسطينيّة. أتساءل وأجيب.

وصلنا إلى المكان بعد حوالي خمس عشرة دقيقة من انطلاقنا من وسط مدينة غزّة، وقفت بنا السيارة أمام المنتجع، والاستغراب يعتلي ملامحي، أهذا هو النورس فعلًا؟ تأكّدوا قبل أن ننزل! يبدو المكان متآكل بفعل ضربات الصواريخ، ومهجورًا! التفت إلينا رجل أشيب، يجلس أمام البوابة ويحرس المكان. خاطبنا "أتريدون المساعدة؟" سألناه عن "مسرح النورس"، وبدا الاستغراب على وجهه قائلًا: "المسرح يقع هنا في المنتجع، ولكن أنتم تعلمون أنه قصف في الحرب الأخيرة؟" وحين أجبنا بنعم سأل نفسه بصوتٍ مسموع: "المسرح مقصوف لماذا يريدون زيارته؟" ثمّ أدخلنا إلى المنتجع واصطحبنا إلى المسرح.

من ساحة المنتجع إلى ممّر على اليسار، توسّطته بوابة، فتحها الحارس بقوّة وأدخلنا. رهبة المكان، انسّلت إلى أنفي رائحة الغبار التي ما تزال تعلق بأنفاسي كلّما ركّزت في ذلك المشهد، ونظراتي التي أخذت تجتاح تفاصيل التفاصيل في المسرح. رأيت تلك الفوّهة التي شقّت سقف المسرح! من هنا نزل الصّاروخ، وهناك كان الضرر الأكبر. 

حاولت إدراك ما كان يحلّ بي دون جدوى، انتزعتني الذكريات بعنفٍ ظاهر. ها أنا أقع من جديد تحت تأثير الـواحد وخمسين يومًا في محاذاة الموت. صخب أصوات القذائف والصواريخ، أصوات الطائرات، الرصاص وصوت المذياع. ظلام ليلة الواحد والعشرين من تمّوز 2014، أنا وعائلتي، كيف ناجينا الله من انسكاب القذائف علينا، صرنا نشتهي الموت بصاروخ طائرة حربيّة على أن تضربنا قذيفة مدفعية تقتل بعضنا وتذوّق بعضنا الآخر مرارة الفقد والأوجاع.

وحده المسرح هذا، ربّما من أثبت لي أن الحرب لم تنتهِ بعد. وحده يوم زيارة المسرح أشعرني بحرفيّة ما قالته صديقتي عروبة: "اليوم، تبدو الحرب طازجة والقبور رطبة، وكأنّنا لم نستفق بعد من ذكرياتها. الركام في محلّه، والناس صاروا أكثر قنوطًا من قبل"  فالمسرح لا يزال يقتل ولا أحد ينتبه، روح هذا المكان تناجينا ونحن لا نكترث! نحن الذين نشهد أنّنا ما زلنا أحياء، سالمين جسديًا لكنّنا لسنا بخير. إسرائيل قتلت فينا الحياة ونحن على قيد الحياة! 

حوالي الخمس عشرة دقيقة في مسرح النورس، أنهكت ما حاولت أن أعالجه من عقد نفسيّة، وذكريات كانت في الطي. على مدار العام وأكثر وأنا أحاول، لا مفر. لا شيء يسلم من إسرائيل هنا، لا البشر ولا الشجر ولا الحجر. خرجت من المكان بصمتٍ تام وأنا أردّد بيني وبين نفسي: الموت لإسرائيل آناء الليل وأطراف النّهار. الموت لإسرائيل اليوم وكل يوم. الموت كلّ الموت لإسرائيل ثمّ للحرب.