26-فبراير-2023
كاريكاتير لـ ماريلينا ناردي/ إيطاليا

كاريكاتير لـ ماريلينا ناردي/ إيطاليا

لم يكن الخطاب الغاضب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في سنوية الحرب، إلا تعبيرًا عن المأزق الذي يعيشه، جراء الفشل في تحقيق الأهداف التي رسمها قبل عام، خلال عملية غزوه لأوكرانيا، التي اعتقد بكل عنجهية وغرور، أنه يستطيع إعادة تشكيل خارطة المنطقة، وأن باستطاعته إنهاء "عمليته الخاصة" في غضون شهر على أبعد تقدير.

قدم فلاديمير بوتين تصوره للحرب خلال الخطاب في سياق تاريخي، قائلًا إن "الغرب لا يمكنه إلا أن يدرك أنه من المستحيل هزيمة روسيا في ساحة المعركة".

بدأ بوتين غزوه الشامل لأوكرانيا بغطرسة وحماسة، غير آبه بالمناشدات الغربية والدولية للتمسك بالخيار السلمي لحل الأزمة، متوهمًا أن في إمكانه إعادة تشكيل النظام العالمي

هذا الجرم باستحالة الهزيمة، يكشف عن جهل فضيع بالتاريخ من قبل الرئيس الروسي، فخلال 200 عام هزمت روسيا في حروب كثيرة، في حروب التحالف الثالث والرابع، التي دامت بين عامي 1803 و1806، وما بين عامي 1806 و1807، والتي قادها إمبراطور فرنسا نابليون بونابرت، أين هزمت روسيا في معارك أوسترليتز وفريدلند، وأفضت إلى نصر فرنسي حاسم، وأرغمت الإمبراطورية الروسية على توقيع على معاهدات تيليست. وحرب القرم، التي خاضعتها الإمبراطورية العثمانية عام 1858، واستمرت حتى 1856 لمواجهة الأطماع الروسية الإقليمية، خاصة في شبه جريرة القرم، وانتهت بهزيمتها وتوقيعها على اتفاقية باريس. بالإضافة للحرب الروسية اليابانية على مناطق النفوذ بشرقي آسيا، ما بين عامي 1904 و1905، وعانت فيها روسيا من عدة هزائم أمام اليابان، وانتهت الحرب بمعاهدة بورتسموث، بوساطة من الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت.

وخلال الحرب العالمية الأولى، قامت الثورة البلشفية، التي أدت لسقوط الإمبراطورية الروسية، واندلعت حرب الاستقلال الأوكرانية، تولت على إثرها الهيئة المركزية السلطة في كييف، بعد هزيمة الجيش الروسي، ما أدى إلى إعلان استقلال أوكرانيا، وإن لفترة وجيزة. وليس انتهاءً بالهزيمة المدوية للقوات السوفياتية بعد تدخلها في أفغانستان عام 1979، وإعلان خروجها في عام 1989، بعد خسارة حوالي 15 ألف من جنودها.

تجاهل بوتين، عن جهل والأرجح عن علم، كل تلك الحقائق التاريخية، وبدأ غزوه الشامل لأوكرانيا بغطرسة وحماسة، غير آبه بالمناشدات الغربية والدولية للتمسك بالخيار السلمي لحل الأزمة، متوهمًا بأن في إمكانه إعادة تشكيل النظام العالمي، وفق رؤيته الخاصة. لكن مع انتكاسات قواته، والهزائم العسكرية المتكررة على الأرض، أدت إلى الحد من طموحه. فقد قُدر عدد القتلى والجرحى من الجنود الروس بحوالي 200 ألف حتى الآن، أي أكثر من عشرة أضعاف ما خسره الاتحاد السوفييتي من جنود في عقد من الزمان خلال تدخله في أفغانستان، وأكثر من عدد قتلى الجنود الأمريكيين في ثماني سنوات من حرب فيتنام.

تلاحقت الهزائم، التي ترافقت مع جرائم ارتكبتها قواته في أوكرانيا، ما قد يعرضها وقادتها ومسؤوليتها لمحاكمات جرائم حرب، وهو ما جعل الصورة قاتمة جدًا، بل أكثر سوادًا.

لفهم نزوع بوتين لكل تلك القسوة، علينا العودة إلى بدايات توليه السلطة، فالشخص أتى من خلفية مخابراتية، أمسك بزمام الأمور في البلد عن طريق تشديد قبضته الأمنية في الداخل، مدعومًا بقدرته على بث الخوف من خلال تجريد بعض المسؤولين والمقربين من دوائر السلطة الغير راضين على نهجه في الحكم، لأصولهم، وإلقاء البعض منهم في السجن. ومستندًا للحروب التي خاضها في الشيشان وجورجيا لتدمير أي معارضة وقفت في وجه سياساته وقراراته الفردية الاستبدادية. وهندس عبر ذلك مجتمعًا منغلقًا، ومصاب بجنون العظمة، ومعادي للقيم الليبرالية، لا سيما الحرية والديمقراطية. وحارب كل الظواهر التي اعتبرها متأثرة بالنمط الغربي، ودخيلة على المجتمع الروسي.

روج الرئيس الروسي لقناعة داخل القطاعات المؤيدة له، والتي لا زالت تعتقد به، بأن روسيا ببساطة لا يمكنها أن تخسر في أوكرانيا، بفضل ما تملكه من قوة عسكرية كبيرة ومن ضمنها الأسلحة النووية، بالإضافة للثروة الهائلة التي تأتي من وراء موارد الطاقة. ونقش في أفكار هؤلاء بأن روسيا لن تكسب الحرب ضد أوكرانيا، بل ضد الغرب، لتصبح القوة القادرة على رسم سياسات العالم وفق تصور الشخص القابع في الكرملين. لكن الوقائع تقول عكس ذلك، فحرب بوتين المستمرة منذ عام في أوكرانيا فشلت حتى الآن في تأمين الأراضي التي دخلت للاستيلاء عليها، وفي روسيا، أصبح هناك خوف، وإن كان بشكل غير ظاهر، وهمس خافت بأن بوتين يقود الدولة إلى فترة مظلمة على كل الصعد، بل يمكن توقع ما هو أسوأ.

على مدار 30 عامًا من حكمه، استطاع بوتين فرض نمط، تعوّد عليه الجميع، بأنه من يقرر كل شيء، لذا كل المسؤولين الحكوميين والتنفيذيين، والشركات، وحتى الأوليغارشية، الذين يعتقدون بأن هذا النهج أصبح يشكل خطرًا على الدولة وحتى على بوتين نفسه، مع تزايد الشكوك حول تكتيكاته في إدارته المعركة. والثقة بأن الحرب كانت خطأ كارثيًا فشلت في تحقيق كل الأهداف المسطرة. وبالنسبة للكثيرين فإن رؤية بوتين لروسيا تصيبهم بالرعب، لأنه يقودها إلى الهاوية، لكنهم عاجزون وخائفون من إبداء أي رأي في العلن، فلا يمكن مناقشة هذه المسائل إلاّ ضمن دوائر مغلقة.

هوس الزعيم الروسي في تحقيق الانتصار للحفاظ على مصداقيته، يدفع به إلى هاوية الهزيمة، لكن الطغاة لا يهزمون، بل يرحلون فقط

هناك رأي سائد بقوة، أن بوتين يمكنه الحفاظ على قبضته على السلطة دون انتصار، طالما أنه يواصل الحرب. لذا استمرارها في أوكرانيا أصبحت مصلحة شخصية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار خطابه الأخير الذي لا يظهر فيه أي استعداد للاستسلام، بل تصعيدًا ووعيدًا بالاستمرار حتى تحقيق النصر.

والآن، مع تعزيز قواته على الأرض بالمجندين من خلال التعبئة الجزئية الخاصة التي أعلن عنها، واعتماده على صقور الحرب والقوميين لعسكرة المجتمع من أجل الذهاب بعيدًا في الحرب. لكن الأخطر هو الحيز الكبير الذي تم منحه لشركات الحرب الخاصة، وأهمها مجموعة "فاغنر"، التي أصبحت على رأس المجهود الحربي الروسي في جبهات القتال بأوكرانيا، وبالنظر لتركيبة هذه المجموعة التي تعتمد على الجناة والمدانين، ورواد السجون، لم تعد تكتفي بالفظاعات التي ترتكبها على الأرض، بل أصبحت تلعب دورًا أكبر وتصدرت حتى المشهد الإعلامي في روسيا، عن طريق توجيه سمامها إلى المؤسسة العسكرية الروسية الرسمية، وصلت إلى اتهامها بالتخاذل والخيانة.

وإذا أردنا أن نقيس الأمر على أي مؤسسة عسكرية رسمية في العالم، التي تأتمر بأوامر جهات بعيدة عنها، فهذا هو شكل من أشكال الهزيمة.

هوس الزعيم الروسي في تحقيق الانتصار للحفاظ على مصداقيته، يدفع به إلى هاوية الهزيمة، لكن الطغاة لا يهزمون، بل يرحلون فقط.