09-نوفمبر-2015

إمكانية حراك جديد ما زالت قائمة (أنور عمرو/أ.ف.ب/Getty)

منذ شهرين تقريبًا، وبعد طول غياب، وجدت قلة من الناس في لبنان طريقها مجددًا إلى الساحات، وتغلغلت بشارع كان بمثابة المتنفس الوحيد لغضبها المتنامي، ضد سلطة لا مسؤولة اختارت بإصرار أن تتخذ موقع اللامبالي أو اللامعني بأصوات جهرت بمطالب المحتجين الذين اجتمعوا في ساحة واحدة على اختلاف خلفياتهم. صارت الساحة ساحتين، تباينت الخلفيات ولكن توحدت المطالب. فمنهم من جاء من خلفية مدنية، ومنهم أيضًا من لديه خلفية حزبية. منهم من له تاريخ طويل في النضال، ومنهم من هو جديد في مجال الحركات الاحتجاجية، فنزل بزخم وحماس آملًا بأن يكون جزءًا من نجاح ماكينة التغيير.

بدأ الحراك خجولًا. وتوقع له الكثيرون الفشل المبكر بالقياس مع تجارب سابقة، أقربها كانت حملة إسقاط النظام الطائفي سنة 2011. توجس آخرون، ومنهم المشاركون في الحراك، من تكرار ما حصل، لذا تفاجأت القوى المنظمة بالاستجابة الشعبية الواسعة، ولم تعرف كيف تتعامل معها بالشكل الصحيح. بدأت بالتنقل بين المطالب كرد فعل أولي للمسارعة إلى تولي قيادة الحراك حديث الولادة عبر تأطيره بمطالب لربما زاحت عن المطالب الأساسية، والقيام بمبادرات فردية وخطوات غير محسوبة أحيانًا، مما هو سابق لأوانه.

توقع كثيرون الفشل المبكر للحراك اللبناني بالقياس مع حملة إسقاط النظام الطائفي سنة 2011

كل ذلك لم يثن القوى السياسية وأمراء الطوائف من محاولة إجهاض الحراك، وأحيانًا من داخله، فصورة الشعب الحر غير مقبولة حيث إن الحراك كان بمثابة شعب لبناني جديد بعيد عن شعوب الأهلية الطائفية ذات الإيقاع المرصوص. فجأة، جاء الحراك ليميط اللثام عن الطائفية، لبرهة، ويظهر الوجه الحقيقي لخطاب الطبقة الحاكمة، المراد منه كسر أية محاولة لوعي شعبي يأتي بعلاقات وطنية بديلة عن الطائفية. من هنا كان التصدي للحراك.

سارع البعض إلى انتقاد الحراك بشتى تفاصيله، متعاملين معه على أنه معطى كامل المقومات، ومتجاهلين واقع أنه ظاهرة تتنامى يوميًا وتتأثر بظروف مجتمعها الاجتماعية والاقتصادية وحتى السكانية، ناهيك عن نسبة الوعي الاجتماعي وتقبل هكذا ظاهرة قد تكسر روتين حياة اعتاد عليه اللبنانيون وكرهوه في الوقت نفسه، إلا إنهم اكتفوا بالإشارة إليه من بعيد. كل هذه الأمور كان لها نصيبها في بلورة الحراك الذي كان لا بد منه. كان طبيعيًا أن يقع في الحراك الأخطاء، ليستطيع أن يقدم نفسه كمنظومة متكاملة تستطيع أن تصل إلى الأهداف الإيجابية المرجوة.

لكن الحراك توقف، مات. السياسة الفضائحية التي اعتمدها البعض من المتضررين من الحراك، كان الهدف منها قمع الحراك عبر تغيير هويته وتشويه صورته في أعين الناس، وإحادته عن مساره الأساسي عبر حصره بالأفعال الفردية لبعض المنظمين، وتجاهل الصورة الأكبر بأن هذا الحراك أصبح أكبر من مجرد أشخاص. كان من الممكن أن يكون حراك شعب، أراد أمراء الطوائف ومن يتبعهم أن يحصروا مشاركته فيه عبر الضرب بأهداف وسياسات الحراك، لمنع تنامي المشاركة الشعبية وبالتالي تبلور الحراك. ومن هنا، كانت الضرورة بأن تقوم واجهة الحراك باستعمال الضغط الشعبي كوسيلة ضغط على الأداة السياسية بقطبيها الأساسيين، خصوصًا وأنه من الأثقال التي ألقيت على هذا الحراك، هو إلقاء الأحزاب البالية بتراجع نسبها الشعبية على شماعة الشارع المنتفض وإقدامها على ركوب الموجة في محاولة بائسة لاسترجاع أمجاد هرمة.

المدة الزمنية التي تفصل بين التحرك الاعتراضي والآخر هي ليست وقتًا ميتًا

من جهة أخرى، أسقط فريق آخر صورة الاستبداد الخارجية والمحلية، القومية منها وغير القومية، لضرب الحراك بنفس السلاح الذي استعمل لكسر الحركات الشعبية اللبنانية المستقلة السابقة، وإعادة الأمر نفسه لمنع ولادة أية حركة جديدة، وذلك عبر المزايدة الفارغة والخطابات الهجينة الدينية-السياسية، وأيضًا عبر الإشارة بالإصبع نحو الأسماء والأشخاص.

من الجدير بالذكر، أن الملفات اللبنانية الأساسية باتت مصدر عبث من قبل الطبقة السياسية بقطبيها المسيطرين، كلًا بحسب مصلحته الخاصة، ولربما كان أول ما يجب على الحراك فعله هو استرداد هذه الملفات، التي ستبقى موجودة بحضور الحراك أو عدمه، هذه الملفات التي تهرب السياسيون من تحمل مسؤوليتها ولكنهم تشبثوا بها في الوقت عينه، كي لا يفقدوها ومنافعها لصالح الحركة الشعبية.

شاهد أيضًا: عيون من داخل الحراك اللبناني

بعدما عكر صفو مياه الطبقة الحاكمة، أين الحراك الآن. لربما لم يستطع الحراك حتى الآن من اقتناص النتائج الثقيلة، إلا أنه ومما لا شك فيه، قد استطاع أن يقض مضاجع السياسيين، وأن يضعهم في وضعية الاستنفار الدائم، و"التخبيص" أحيانًا إن أمكننا القول. لربما يقوم من موته. من الضروري الإشارة إلى أن ما يواجهه الحراك من عنف موجه وممنهج من قبل قوى الأمن المحمية بغطاء سياسي أعلى، وما يواجهه أيضًا من انتقادات بل وتسخيف أحيانًا من قبل من لم يستطع حتى الآن كسر حاجز الطائفة والزعيم للارتقاء إلى صورة الوطن الواحد الحر المستقل، هو ما يجب أن يستعمله الحراك كوقود لإشعال فتيل الحركة الشعبية. بمعنى آخر، يجب تحويل هذه الصعوبات لوقفة مع الذات بدلًا من نعي الحراك. ومن هنا نقول، إن المدة الزمنية التي تفصل بين التحرك والآخر هي ليست وقتًا ميتًا، أو حالة من عدم المعرفة بالخطوة التالية، وإنما هي فترة حيوية صاخبة من أجل تعبئة الرأي العام الشعبي وزيادة نسبة المشاركين، عبر الوصول إلى كافة الفئات لتنمية الوعي العام عندها، وبالتالي نقل الحراك من الفئوية إلى الشعبية.  

إن توسيع قاعدة الاحتجاج، ورفع مستوى الوعي عندها بين الفئات المختلفة من المشاركين، هو من الشروط الأساسية لنجاح هذا الحراك الاحتجاجي المستقل. من الضروري جدًا الآن أن ينظم الحراك أهدافه وخططه ووسائل عمله، وأن ينهض، عبر خطة واضحة مفهومة بالنسبة للناس، خطة متماسكة، من شأنها أن توسع القاعدة الشعبية، وأن تحمي في الوقت نفسه الحراك من استغلاله من قبل الطائفيات والأحزاب، وتشكيل قوة فعلية تستطيع أن تتحول إلى حركة شعبية احتجاجية جديدة. هذا الحراك يجب أن يستمر.

اقرأ/ي أيضًا:
من مستويات الحراك اللبناني.. الانتماء للخطاب
الأمن اللبناني يكشّر عن أنيابه.. بلطجية وسحل!