18-نوفمبر-2015

سمير الصايغ/ لبنان

في كتابه "الحداثة والقرآن" (دار التنوير 2015)، يندرجُ تصوّر الكاتب المغربيّ سعيد ناشيد (1969) حول القرآن في جملة التصورات التي تفترق عن سياقات الدراسات القرآنية الأكاديمية المتأخّرة في مسألة عدم إدراج هذه الدراسات هذا النص ضمن التراثِ باعتباره نصًّا مرجعًا لغويًّا ومعرفيًّا، وباعتبار أن العدّة النقديّة اللازمة للتجديد أو التحديث على اختلافها يستحسن أن تتركز في المنظومة التراثيّة التأويليّة للنصّ الأول. هذه الثانويات التأويليّة هي التراث.

لا بد من الخروج من تصنيم اللغة لصالح القدرة على فتح ثغرات نقاشية وجدلية متون مركزية في التراث

أمّا الدراسات القرآنية التي تحاول تجاوز هذه الحدّ، على قلّتها، هي عبارة عن تصوّرات تحاول استثمار معطيات عقلية أو نقليّة حول القرآن بطريقة تعيد قلب الرؤية جذريًّا إلى هذا النصّ. نتحدّث عن ترتيبٍ يسلط مجهر النظر والتدقيق على تمفصلات تضيء فروقًا تضع المصحف العثماني المقدس المتعالي في مرتبة ثالثة هي ثمرة تحولات تاريخية وبشرية. هي، بتعبير صاحب "نقد نقد العقل العربي" عملية مصحفة النص. وتسبق، بحسب ناشيد، هذا التكوّن النهائيّ مرحلتان هما، أوّلًا، مرحلة الوحي أو التخييل النبويّ الفائق للصور العلوية، وتاليًا مرحلة الصياغة المحمدية اللغوية التي تندرج في النسق السوسيو- ثقافي للمجتمع العربي المكّي. 

والأخطر، في هذا الحيّز، أن الصياغة، بهذا المعنى، لا تتصف، بحال من الأحوال، بكونها كلام الله النهائيّ المعجز باللسان العربي، بل هي تراكيب لغويّة فائقة الجودة تتفاوت تبعًا للتجربة النفسية لشخص الرسول في المحيط والبيئة وتكون مؤسسة على ثابت أنطولوجيّ ربوبيّ فقط، هو أسّ الوجدان والإيمان. نعني التوحيد: "لا إله إلا الله".

يحيل الكاتب، في إصداره الجديد "الحداثة والقرآن" بدرجة معينة، هذا النمط من التعامل النظريّ والعملانيّ مع القرآن إلى أفكار محمد مجتهد الشبستري، وبعض آراء أحمد القابنجي، وتحديدًا تصوّرات عبد الكريم سروش في كتابه الشهير بسط التجربة النبوية. على أن هذه النظرة التي تتسم بالجدة، لناحية تحديد المركزية القدسية في دائرة التوحيد الفطري المتباسط بالعلاقة مع المفارق من خارج هاجس المتكلمين التراثيّ حول طبيعة الكلام وآلياته "الوحي/ كلام الله/ النصّ العربي المغلق"، هي نظرة لها، وجه من الوجوه، أساسات في عمق التراثِ سيما في بعض متون إمام الحرمين الجويني في تطرقه لطبيعة الوحي كلام الله في كونه المعاني النازلة على قلب الرسول الذي يتوكل بترجمتها لغويّا بلسان عربي مبين.

إنّ وعي هذا التمرحل الثلاثيّ للمصحف العثمانيّ، بحسب صاحب "قلق في العقيدة"، فضلًا عن الركون إلى فكرة التجربة النبوية التخييلية، من شأنه أن يزيل معظم الالتباسات التي تصيب العقل الفقهائي التقعيدي المسطح في محاولاته الدؤوبة مدّ نصوص الشريعة، باعتبارها كلامًا متعاليًا شاملًا في الزمان والمكان، إلى كلّ تفصيلات البشر الدينية والدنيوية "كلّ من عند الله". 

الالتباسات التي تضع مرارًا وتكرارًا النص أو الوحي أو الخالق باعتباره مصدرًا للنص اللغويّ والشريعة، في مواجهة الحداثة الإنسانوية في عصر المؤسسات والدول التي يُنشئ فيها الناس مفاهيم تتصل بالحرية الفردية. الحرية من جهة كونها تجربة أخلاقية إرادوية حرّة تنعتق فيها الذات نهائيًا من قيم "ما قبل الدولة"، نعني قيم الاتباع والاتكال والحاجة إلى قائد أو سائس نبيّ. أضف إلى ذلك أن فكرة التجربة النبوية التخييلية لا تركن، بحال من الأحوال، إلى آليات المفكرين الإسلاميين المعتدلين المعروفة في محاولة فك الالتباس النصي من خلال الركون إلى ابتكار آليات اجتهادية لا تمس في العمق صلاحية الشريعة الإلهية كمصدر نهائي أو كخلفيّة دائمة لتسيير حياة الإنسان الحديث، فضلًا عن التباساتٍ فيما خصّ مسائل عديدة متعلقة بتقنيات تشكلّ النص لغويًا ومتنيًا في حقبة الصدر الأول.

يتكئ إعجاز القرآن على الإحساس الجذري للنبي بالوجود الكوني الساري، بفطرة الربوبية في "لا إله الا الله"

 التشكيك باكتمال اللغة العربية من جهة نفي مصدريتها الإلهية في التصور الأرثودوكسي من خلال الوعي بسياقات الآلية التقعيدية التاريخية (النحو)، هو في العمق إحدى نتائج التصورات البالغة الحساسية في فهم علاقة ثلاثيّ: الوحي/ الرسول/ القرآن. إنّه خروج من تصنيم اللغة المقدّسة لصالح القدرة على فتح ثغرات نقاشية وجدلية متون مركزية في التراث. متون نقليّة زاخرة بإشارات تحيل بالضرورة إلى سؤال الحاجة إلى مساءلة نقدية مفتوحة للباراديغمات التي على أرضيتها (قرآن/ شعر) تأسس جهاز النحو العربيّ، وتاليًا مساءلة مختلف الظروف المتأخّرة التي استدعت إغلاق مساحات النقد. تلك المساحات إذ أورد الكاتب "ليس القرآن نحوًا" (ص101) أمثلة عديدة بشأنها تشير إلى وعي القدماء إلى ثغرات نحويّة في المصحف العثمانيّ يدأب المتأخرون من عبدة اللغة إلى إغفالها عبر تنكب افتراضات نحويّة لا تبدو مقنعة بحال من الأحوال.

إن إعجاز القرآن يتكئ، إذن، على التجربة التخييلية النبوية المتنوعّة في صلتها بالمفارق واستلهاماتها واستبطاناتها وسياقاتها الشعورية التي أدرجها النبي في صيغ لغوية فائقة الروعة، تتفرق، بدرجة ثانية، في صدور الصحابة. إنها الخبرة النبوية في الاتصال الحيويّ بالمفارق. اتصالٌ ليس سبيلنا إلى قراءته إلا من خلال تأويلات النبي اللغوية لهذه الصور النازلة من المصدر الكوني. تأويلات تبقى من جهة أنها صارت نصًا لغويًا بشريًّا. إنه الإحساس الجذري للنبي بالوجود الكوني الساري، بفطرة الربوبية في "لا إله الا الله". 

بهذا الفهم، لا يعدو القرآن بصيغته العثمانية المغلقة المقدسة إلا متنًا أخيرًا لسياقات شاقة بشريّة في الجمع والترتيب والتبويب ومحاولات التشكيل النحويّ النهائي في زمن متأخر نسبيًا عن حقبة التجربة المحمدية. يفتح لنا ذلك، بطبيعة الحال، باب الخروج من مفاهيم الثبات النصيّ إلى فضاء حيويّ لا تعود الشريعة فيه بنصوصها الفقهائية المتولّدة والقاصرة والمقيِّدة ملزمةً إذ إنها لا تعكس بالضرورة والتفصيل والراهن المصدر الإلهي الشامل الأول والفطريّ.

اقرأ/ي أيضًا:

سوزان عليوان.. خفوت النبرة وهاجس التعبير

جهاد هديب.. أو بوحٌ لا يعني أحدًا غيرنا