11-أغسطس-2015

عناصر من مليشيا حركة أمل لدى مدخل مخيم شاتيلا عام 1986 (أ.ف.ب)

في بداية التسعينيات دخل الجيش السوري إلى الضاحية الجنوبية في بيروت، لإنهاء القتال بين حركة أمل وحزب الله. أسفر عن دخول السوريين اتفاق مبدئي بين الطرفين، تحول إلى تحالف في ما بعد، بات يعرف الآن بتحالف الضرورة، للحفاظ على تماسك "الطائفة". وهذا شائع بين مناصري الفريقين.

آنذاك، انتشر رجال يرتدون لباسًا مرقطًا، على مداخل بعض الأبنية وبين المنازل. رجال ببزات عسكرية، كانت متجانسة من رأس العسكري الى أخمص قدميه، توحي بالانضباط. للأطفال، الذين لم يعرفوا سوى الحرب آنذاك، كانت بزات ساحرة للغاية في ظل فوضى الأشكال التي طغت على الشوارع. كانت الناس تمرّ إلى جانبهم بهدوء وحذر شديدين، ويمكننا أن نستثني الأطفال من هذا أيضًا. النظر إلى الكائن المرقط كان متعةً حقيقية تتخطى الإعجاب. كثيرون تمنوا أن يصبحوا مثلهم. كانت هويات العسكر وجنسياتهم غير واضحة بعد. فهمت لاحقًا أنهم من الجيش السوري، وطبعًا ندمت على شقاوة الطفولة.

في منطق السوق وجني الأرباح، يجد فنانو الموجة الجديدة أعذارهم

اختصرت هذه البزة السياق السياسي والعسكري الذي وصل به الى مدخل هذا المبنى. أذكر كيف أفلتُّ من يد الوالدة في إحدى المرات، وتوجهت مسرعًا نحوه. لم أكترث لصراخها. كان أشبه بالمناجاة. وصلت إليه، وكان متجهم الوجه وفي حيرة. وصلت وضربت له التحية، فابتسم. كان يبتسم للوالدة التي قد لحقت بي للتو، ولم تكن ابتسامته موجهة لطفولتي.

العسكري الذي أعجبتُ به وببزته، أعجبتْه الوالدة. لو كان فرويد من سكان الضاحية في تلك الفترة، لكان استحدث نظرية "أوديبية – عسكرية" كانت لتساهم في تفسير عقدة طفل نمت تجاه العسكر منذ تلك اللحظة. عقدة تحكمني أثناء مشاهدة الأغنيات الترويجية لكل ما هو أمني في لبنان. أعرف أن هناك نشيدًا للجيش، كان يطلبون منا غنائه في المدرسة، في عيد الاستقلال، أما اليوم فأخشى إذا سألني أحدهم عنه، أن أبدأ بغناء أغنية لزين العمر، ليس بالضرورة تلك التي يرتدي فيها بزة عسكرية كالتي سحرتني، أي أغنية لم أعد أفرق.

زين العمر، نموذج لطيف بتطرّفه، أعلن في إحدى المرات، وبعد اشتداد الأزمة على الجيش في عرسال، أنه سيضحي بفنه، وهذه خسارة كبيرة للفن بصراحة، ويلتحق بصفوف الجيش مقاتلًا. لم نسمع عنه أي شيء بعد هذا التصريح، ربما يحضر لأغنية جديدة لدعم الجيش.

ثمة شيء غريب في إصرار المغنيين والمغنيات في لبنان، على أن يكون لهم أغنية عسكرية ضمن "ريبيرتوارهم" الفني، تمامًا كضرورة حصول سائق سيارة الأجرة على لوحة عمومية. أتساءل أحيانًا إذا ما كان لهؤلاء المغنيين والمغنيات، جار سوري ببزة عسكرية كتلك التي أعجبت بها دون أن يحطموا عقدتهم تجاهها.

لكن المسألة تتخطى الإعجاب عند هؤلاء. الغناء للجيش ضرورة، تضفي صفة وطنية جامعة، تساهم في توسيع دائرة جمهورهم المقسم إلى علب طائفية، الجيش لا غبار عليه، مقبول من الجميع. الجيش جيش والعسكر عسكر. وفي منطق السوق وجني الأرباح، يجد فنانو الموجة الجديدة أعذارهم. لكن علاقة الحب ليست من طرف واحد، ففي أسفل "الجينريك" بعد الانتهاء من كل أغنية، هناك جامع واحد بين كل الأغاني على اختلاف كلماتها وألحانها الرديئة والمكرورة، "شكر خاص لمديرية التوجيه في الجيش اللبناني". يا سلام!

الشكر هذا يحيلنا إلى رغبة الجيش "الوطني" في تقديم أي مساعدة ممكنة لهذه الأغنيات، من معدات وآلات حربية، وحتى عناصر في الجيش، يخدمون كممثلين مساعدين في الأغنية. ما حاجة الجيش إلى هذه الأغنيات؟ ما حاجة أي مؤسسة عسكرية لأغنية ترويجية غير نشيدها؟ سنواجه إسرائيل بالفن، ربما!

الشركات التي تسعى إلى جذب زبائن جدد أو سوق جديد، تعتمد على حملات العلاقات عامة، على الدعايات، والترويج لبضائع قد لا يحتاج إليها المستهلك والزبائن الجدد المستهدفين. لكن الجيش والمؤسسات الأمنية حاجة وضرورة. تضفي بذلك الأغنيات الترويجية للمؤسسة العسكرية أو أي مؤسسة بخوذ وجزم عسكرية، ضرورة لخلق علاقة أبعد من الحاجة أو الضرورة. علاقة تماه وحب، مليئة بالمشاعر، كتلك التي تتسبب بها الأغنيات الرومانسية للمغنيين والمغنيات أنفسهم. يستبدلون الحبيب أو الحبيبة، بضابط مغوار. أليس هذا رومانسيًا؟

لو كان فرويد من سكان الضاحية الجنوبية، لكان استحدث نظرية "أوديبية – عسكرية"

تنتقل بذلك العلاقة إلى متسوى مختلف، علاقة حب مع المؤسسة العسكرية، وتحمُّلِها بحسناتها وسيئاتها، تمامًا كاحتمال الحبيب في السراء والضراء، كما يقولون. تخطئ المؤسسة العسكرية؟ طبعًا. تسحل المتظاهرين في الشارع؟ أحيانًا. تعتقل تعسفًا وتخضع مدنيين لمحاكمة عسكرية؟ لم لا.

لكن يكفي الاستماع إلى أغنية واحدة، لزين العمر، أو لشمس الأغنية اللبنانية "نجوى كرم" وهي ترتدي البزة العسكرية، لتطييب الخواطر والعودة إلى الحبيب. في النهاية المؤسسة العسكرية تحمينا، تمامًا كما يحمي الرجل المرأة في المنطق الذكوري السلطوي.

أخيرًا، صدرت أغنية جديدة، نجمها فنان "صاعد". لكن الأغنية ليست للجيش، بل لفرع المعلومات...  لفرع وليس لمؤسسة بكاملها. أغنية بعنوان "وصلوا رجال المعلومات". أغنية استخدمت فيها أحدث تقنيات التصوير من كاميرات تحلق في الجو، "غو برو"، مشاهد تميثلية تشبه لعبة "الكاونتر سترايك"، وكل شيء. الأغنية الموجهة لهذا الفرع، فتحت بابًا جديدًا لعبادة البزة. فتحت باب التنافس بين المؤسسات العسكرية في لبنان، لكسب القلوب.

من يشاهد الأغنية، يضحك على ما تتضمنه الأغنيات الأخرى من تقنيات بدائية. على زين العمر ونجوى كرم وطوني كيوان ومن لف لفيفهم. الآن باتت الخيارات أكثر تنوعًا، وعليهم تحديد الحبيب الأمثل، والأكثر ضمانة لنا ولأمننا، والأكثر ضمانة لسوقهم.

استذكر جارنا العسكري السوري في المبنى المجاور الذي رحل. أستذكر معه أبو تمام. ولو عاد جارنا، سيستبدل هؤلاء البزة، وسيتهافتون على تلحين قصيدة "وما الحب إلا للحبيب الأول". ولكن، بانتهاء خدمة العلم الإلزامية، سيذهب وائل كفوري وحده إلى الجيش.


خارج عن النشيد الرسمي