05-أكتوبر-2017

رائد وحش/ فلسطين ـ سوريا

حين صحوت لم يكن الجمل هناك. بل كانت هناك أسرّة من تلك التي توضع في دور الرعاية الطبية وأنا كنت نائمًا على واحد منها. "كيف حالك الآن؟". إنه طبيب على ما يبدو وإلى جانبه متأخرًا عنه خطوة يقف ممرض.

"أين هو؟ هل ألحقتم به أذى؟ لم يفعل شيئًا" صرخت.

اقترب الممرض مني ونفذ التعليمات التي همسها له الطبيب. بدأت بعدها أحس بتعب ورغبة قوية للنوم ورأيته. يقف أمامي ويلبس متنكرًا ما كان يلبسه الممرض. طمأنني أنه لم يصب بسوء وأوصاني ألا أتحدث عنه لأحد، فموعد الهرب على أي حال قد أصبح قريبًا.

في الليل والكل كانوا نيامًا، أتى وزارني، فرحت كثيرًا حين أخبرني أن موعد الهرب قد أذن. ضممته إلى صدري وقبلته، فأخذ يضحك، ثم غطاني كي أعود فأنام، لكن من أين لي النوم وأنا أعلم أنني مذ خرجت لن آراه بعدها.

 لقد هربت وعدت إلى بيتي. هكذا اعتقدت عندما أفقت ولم أجد نفسي في سريري الأبيض. بل أجلس على كرسي لا أراه في غرفة معتمة إلى حد كبير، ليس فيها سوى ضوء خافت لشمعة أو اثنتين، ولم يثر ذلك استغرابي. قد تكون الكهرباء مقطوعة. هممت أقف عن الكرسي فلم أستطع ولم أستغرب فربما تكون زوجتي قد ربطتني إلى الكرسي كما كانت تفعل بعد أن تضربني، فناديت زوجتي أن تعالي إليّ، وفكي عني قيودك وأعدك أني لن أعيد ما فعلت.

رد علي صوت كدت أجزم أنه صوت لرجل، ولم أستغرب، فلزوجتي صوت عريض، وربما بسبب الدخان قد أصبح أعرض، وأيضًا فقد طالت عنها فترة غيابي. فُتح الباب ودخل منه رجل، لم أستغرب، كل شيء لا زال كما كان تقريبًا، فكثيرًا ما دخلت إلى بيتي وكان فيه رجال غرباء عني لا عن زوجتي لأنها هي تعرفهم. كانت دومًا تقول لي إنهم مثل أولادها، مع أن بعضًا منهم، الحقيقة، أكبر عمرًا مني، ولكن كانت تقول: "هؤلاء كأولادي لأني أعرفهم أكثر مما تعرفهم أمهاتهم"، وكانت تضحك.

لكي أكون صادقًا أول الأمر ساورني الشك، لكني قطعته حين رأيت بعيني كيف أنها تعاملهم تمامًا كما لو أنها أم لهم. أذكر مرة دخلت عليها إلى غرفتنا فوجدتها وهي تُلبس واحدًا منهم ملابسه، بدت كأم تجهز ابنها للذهاب إلى مدرسته. ومرة أخرى دخلت فوجدت رجلًا على سريري دون ملابس وهي تقف بالقرب منه إلى جنب السرير فسرت إليها غاضبًا: "ما الذي يجري؟". أجابت: "لم أنت غاضب؟ لقد بلل نفسه وأنا أغير له ثيابه"، فخجلت من تصرفي، اعتذرت وخرجت وتركتها تغير له ملابسه وهو يضحك كطفل صغير. لذلك لم أستغرب حين دخل علي الرجل الغريب، وهو أيضًا لم يستغرب حين رآني مقيدًا.

سألني الرجل "أين هو؟"، عرفت عندها أنه لم يصدق وعده، وأني لست في بيتي، بل ربما قد خطفت، وهذا الغريب عني وعن زوجتي هو من خطفني. "لا أعرف!"، ضربني. وعاد ليسأل وأعدت نفس الجواب فضربني، وظل يضربني حتى بكيت. ولما رآني أبكي تركني ووعدني بعودة قريبة. أُغلق الباب خلفه، لكن ليس لمدة طويلة، دخل رجل أطول من سابقه وحين رأيته منقضًا علي نزل رأسي بين أكتافي وصرت أبكي وأنوح: "والله لن أعيدها، أقبل يديك لا تضربني".

"ما بك لم أعرفك هكذا"

"أنا هكذا، ولطالما كنت، ولكنك أنت الذي لا تعرفني"

"لو كنت أعرف لما فكرت بمساعدتك"

فرفعت رأسي ورأيته وفي عيونه لمعت خيبة أمل.

في منتصف الليل، فتحت عيوني على سقف أراه لأول مرة. وعرفت أنني لا أعرف أين أنا. شجعت نفسي وخرجت من الغرفة ووجدته ينام في الصالون. وأنا مطمئن لأنني في بيته عدت لنومي. وشعرت ببرد، ربما وقع عني الغطاء وشعرت بماء يبللني ففتحت عيني لأراه يحملني ويهرب بي. "لقد عرفوا مكانك ويجب أن نهرب" قال دون أن يلتفت. وظل يركض إلى أن وقع "لم أعد قادرًا أن أساعدك أكثر يجب أن تكمل طريقك بنفسك"، فسألته: "لماذا لم تطر بنا؟"، قال إنه سيفعل عندما تنمو أجنحته، "وأين هي أجنحتك؟"، فاستغرب من سؤالي وكأنه لم يكن له يومًا أجنحة.

"أجنحتك البيضاء"

"أجنحتي البيضاء، وماذا أكون أنا نسرًا أم صقرًا"

"أنت جمل"

لم أفهم سبب طلبه للسماح مني ربما كنت أريد أن أسأله عن السبب لكن "ها هم أمسكوهم"، علا صوت لا أعرفه. ثم هجم علينا أربعة أو خمسة رجال أمسكوا بي وقيدوني، ولم يحاول الجمل أن يساعدني بل ظل ساكنًا ساكتًا، نهض عن الأرض ومشى معهم وصاروا يتحدثون إليه كأنه واحد منهم. أصابتني صدمة قاسية "أنت واحد منهم أيها اللعين"، وكنت أريد أن أستمر في إلقاء اللعنات، لكنني شعرت بخدر، ولم أعد قادرًا على أن أقول أية كلمة على الأقل أية كلمة مفهومة.

صحوت مرة أخرى في غرفة جديدة. لم أكن فيها وحدي. "كيف صرت؟ (لم أجب).. إذا أردت أن تتحسن عليك أنك تسمع الكلام"، قال قبل أن يلتفت نحوي. سألته أين أنا فأجابني إنني في بيتي الثاني، وإنني حين أتحسن سأعود إلى بيتي الأول عند عائلتي.

"أنا في المشفى؟؟". أكد لي صحة اعتقادي وأضاف أنني في زيارة. سألته عن الجمل. "ليس هناك جملًا. إنه ممرض. تعاطف معك عندما عرف حكايتك مع زوجتك". صرخت في وجهه فمن أين يعرف زوجتي، أجاب أنه لا يعرفها شخصيًا، لكنه يعرف لم يبق منها حين عثروا عليها وقد أطعمتها لكلبي سوى رأس مشوه على المخدة.

وقال أيضًا إن الممرض كان قد أعتقد أني قد ادعيت الجنون حتى لا أعاقب، فقد كان مقتنعًا أنني حسبما يظن محق فيما فعلت لزوجتي.طبعًا لم أصدق أي كلمة مما قاله الطبيب، فزوجتي لا يوجد من هي أحسن منها، وهم يقولون ما يقصدون به أن يبعدوني عنها، لكنني حين أخرج من هنا سأعود إلى بيتي. أما الجمل فلم أعد أريد أن أراه أبدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في اللوحة بائع كعك

حروب مجاورة