16-يونيو-2022
رقص شرقي

الجسم الراقص كتلة واحدة (فيسبوك)

يجهد البشر طوال ساعات نشاطهم ويقظتهم في تقطيع أجسامهم إلى أعضاء. هاتان ساقان جميلتان، وهذا بطن صحي وضامر، والرجل المار بقربنا يملك عضلات ضخمة. وفي هذا التقطيع ما يوحي بأن الجسم البشري يقوم بوظائفه في زمن يقصر كثيرًا عن زمن العيش. هو الزمن الذي تكون فيه بعض أعضاء الجسم وظواهره قادرة على الإفصاح عن نفسها والإغواء.

الجسم الراقص كتلة واحدة، رغم أن أعضاءه تؤدي وصلاتها المطربة تباعًا، إلا أنها دائمًا تستمر موصولة بالأعضاء الأخرى التي تدعمها

بخلاف هذا السعي الذي نمارسه كل يوم، يأتي الرقص من مجال آخر. الجسم في الرقص كتلة واحدة. أحيانًا يسمح لنا الجسم الراقص أن نتملّى في بعض أعضائه، لنفصلها عن الجسم عمومًا. وبهذه الطريقة نخرجه من خانة الفن إلى خانة المتعة. وبهذه الطريقة، نتوسل إطفاء العطش الذي يصيبنا ونحن نتأمل الجسم الراقص وهو يتوازن في وضعيات نحسب أنها تبعث على السقوط.

الجسم الراقص كتلة واحدة، رغم أن أعضاءه تؤدي وصلاتها المطربة تباعًا، إلا أنها دائمًا تستمر موصولة بالأعضاء الأخرى التي تدعمها وتأويها وتسمح لها بالتفرد والغناء. هذا مما نلاحظه في معظم أنواع الرقص، مع أن بعضها، لا يسمح لأعضاء الجسم أن تغني منفردة، لأن الوظيفة التي يقوم بها الجسم في الرقص تُعنى بتوحيده أكثر مما تُعنى بتفريق أعضائه.

ذات يوم سألت الراقصة اللبنانية الراحلة داني بسترس، عن السبب الذي يجعلها تدافع بعينيها ووجهها عن جسمها في وجه المشاهدين والناظرين. أجابتني أن الجسم الذي يرقص ليس مشابهًا للجسم الذي يقترف المتع. في المتعة، سواءً أكانت طعامًا أم جنسًا، ثمة عضلات يتم تدليلها على حساب عضلات أخرى. المتعة تتحقق، لكنها متعة أعضاء وليست متعة جسم. في الرقص، كل عضلة في الجسم تأخذ حقها من المتعة، حتى الوجه يجدر به أن يقول ما يتوجب عليه قوله لتحقيق متعة الجسم. والحال، الرقص تكريم للجسم، فيما المتع، التي يحاول الناس جاهدين تحصيلها، هي تكريم للأعضاء.

في الرقص الشرقي يحدث أن يهتز الصدر أو الخصر أو الأرداف، وأن يحسب المشاهد أن الجسم في هذه اللحظة يمكن اختصاره بالعضو الذي يهتز ويشير إلى وجوده. لكن هذا شأن مشاهدين وليس شأن راقصين. المشاهد ملول ويريد أن ينهي الرحلة بأسرع ما يمكنه، لكن الراقص صبور ويريد أن ينتقل من الردف إلى الخصر ومن الخصر إلى الصدر ومنه إلى الذراعين فالرأس. جسم الراقصة "الشرقية" هو كل متكامل، لكنه وهو يدفع أعضاءه إلى التفريد والسلطنة ينجح في إرسال رسائل إلى المشاهد تدفعه إلى رد الاعتبار للأعضاء التي أهملها في جسم حبيبته أو شريكته. وحيث أن الرقص الشرقي هو في العام المتعارف عليه فن نسائي، فإن جسم المرأة هو الذي يتم تعريفه وإغناؤه في هذا النوع من الرقص، بخلاف جسم الرجل الذي يبدو محجوبًا وغائبًا وتكاد تكون وظائفه محدودة ولا تذكر.

لهذا وما أن تبدأ الراقصة وصلتها حتى يغمرنا الشعور بأميتنا وجهلنا، ما يدفعنا للدفاع عن أنفسنا بإعادة تعريف أجسام شريكاتنا، مع أن بعض الرجال لا يطيقون صبرًا ويرغمون الجسم، الذي يصير بالرقص فصيحًا ومبلغًا، إلى تعريف نفسه بأعضائه البارزة مرة أخرى. كأن نحب في رقص سهير زكي هزة خصرها، أو نغرم بأرداف نجوى فؤاد التي تهتز بانتظام هندسي لا مثيل له، أو نبدي إعجابنا بصدر ناديا جمال.

الرقص تكريم للجسم، فيما المتع، التي يحاول الناس جاهدين تحصيلها، هي تكريم للأعضاء

لكن الغالب على الرقص الشرقي أنه يعيد جسم المرأة كلًا موحدًا، فلا يعيبه سن أو ترهل أو تضخم في أي من أنحائه ومنحنياته. والحق إن مشاهدة راقصة شرقية تؤدي وصلتها سرعان ما يجعلها بلا عمر أو حجم. لا يعود تمييز طولها من قصرها ممكنًا، وتتحول كل أعضائها إلى أعضاء بارزة حتى لو كانت في سيرها اليومي والعادي لا تملك أن توحي بمثل هذا البروز. كما لو أن الرقص يصنع لجسم الراقصة عيونًا جديدة تثبتها في رؤوس المشاهدين، فيجعل كل تفصيل من تفاصيل جسدها مرئيًا ومعاينًا، ويحجب عن مشاهديها رغبتهم في إعادة جسم المرأة إلى محدودية وظائفه التي يرغب بها الرجل.

حين أشارت داني بسترس إلى المتع ذكرت الطعام والجنس، لكنها أهملت النوم. ربما لأن الجسم في النوم يعود موحدًا. كل الأجسام النائمة هي أجسام متكاملة، ولهذا تكون محبوبة حتى وهي لا تغوي بعينيها المغمضتين. والأرجح أن الرقص الشرقي يخرج الجسم من نشاط يقظته، الذي يجبر النساء والرجال، على استخدام أصابعهم حين يطبعون على الآلة الكاتبة وأرجلهم حين يركضون، وأفواههم حين يأكلون، ويعيد، أي هذا الرقص، الجسم إلى نومه الممتع حتى حين يكون في قمة نشاطه.