03-أبريل-2017

أحاديث سيارات الأجرة، جزء من الواقع الجزائري (فايز نورالدين/أ.ف.ب)

انطلقت بنا سيّارة الأجرة من الجزائر العاصمة، إلى مدينة معسكر، 400 كيلومتر غربًا، وكان أوّل ما طلب منّا السّائق الذي يمكن تشبيه هيأته بفلاح أو جزّار أو عامل في الميناء، مع احترامي لكلّ هيئة في سياقها، أن ندفع له أجرته مسبقًا. قال إنه تعرّض للاحتيال أكثر من مرّة، إذ هناك من يفرّ بمجرد أن يصل إلى محطّة الوصول، وهو ما دفعه إلى هذا الإجراء كي يحمي نفسه.

كم واحدًا يثق في باعة اللبن والعسل؟ ذلك أن الغش فيها بات ضاربًا أطنابه، علمًا أن باعتها هم أكثر التجار هروبًا إلى القسم بالله

قالت فتاة كانت تستعمر المقعد الأمامي، وهذا يعني أن الجزائريين يساعدون المرأة في وسائل النقل، كما يعني أنها خرجت من مرحلة الصّمت المطبق داخل هذه الوسائل إلى مرحلة المشاركة في الحوار، "ألا يعني هذا أننا فقدنا الثقة في بعضنا نحن الجزائريين؟".

اقرأ/ي أيضًا: الجزائريون لسائق الأجرة: "نثق بك"

لم يكن السّائق عميقًا، فلم تكن إجابته على سؤال الفتاة إلا قسمًا بالله إنها ليست مسألة ثقة فينا، فقاطعتُه بالقول: "كم واحدًا فينا يثق في باعة اللبن والعسل وزيت الزيتون؟ ذلك أن الغشّ فيها بات ضاربًا أطنابه، علمًا أن باعتها هم أكثر التجار هروبًا إلى القسم بالله، والحديث قياس على أمور كثيرة". وأضافت الفتاة التي ظهر أنها ستكون محرّك الطريق/الحوار: "لا المصلّون باتوا يثقون بالإمام الجزائري، ولا هو يثق بهم، ولا التلاميذ بمدرستهم، ولا هي تثق بهم، ولا الزبائن بالتجار، قانونيين وغير قانونيين، ولا التجار بالزبائن، ولا الأنصار الرياضيون بفرقهم لكرة القدم، ولا هي تثق بهم، ولا الجمهور في المسرحيين، ولا المسرحيون يثقون به".

سأل شابّ كان يحرص على أن يظهر وجهه للفتاة في المرآة، أكثر من حرصه على أن يوصل صوته -هل بات الشاب الجزائري يراهن على الشكل أكثر من المضمون؟ "يجب ألا تنسوا أن هذا كلّه بسبب الحكومة". فردت الفتاة: "للحكومة أدوار كثيرة في زرع الشكّ بين المنظومات المختلفة، فالأنظمة غير الشرعية تستمرّ بسياسة التفريق، لكن هل جاءت هذه الحكومة من الفضاء"، وأشارت إلى ألواح الإشهارات الانتخابية الخاصّة بالانتخابات التشريعية التي ستجرى يوم 4 أيار/مايو القادم.

للحكومة أدوار كثيرة في زرع الشكّ بين المنظومات المختلفة، فالأنظمة غير الشرعية تستمر بالتفريق، لكن هل جاءت هذه الحكومة من الفضاء؟

بعض هذه الألواح كانت تبدو مشوّهة بكتابات بادر بها مجهولون، وأخرى تمّ انتزاعها ورميها جانبًا. واصلت المتحدّثة الجميلة: "كلما قاطعنا الانتخابات، بحجّة أننا نعرف مسبقًا أنها مزوّة، استمرّ هذا النظام في الحكم، وكلما شاركنا فيها، من غير أن نفرض سلطتنا الشعبية، استمرّ أيضًا. يا جماعة.. فساد الحكومة من غياب روح ووعي المجتمع المدني فينا".

اقرأ/ي أيضًا: حتى لا تتكرر العشرية السوداء

اعترض الشاب على كلامها: "لكن الحكومة جفّفت كل منابع هذا الوعي". التفتت الفتاة إليه للمرة الأولى بثقة واضحة، فلم يُخفِ انبهاره من خلال ملامحه: "أنت نفسك ستنتخب ابن عمّك الأمّي لأنه ابن عمّك، رغم وجود كفاءات حقيقية وصادقة.. صح؟". بادر إلى الموافقة على كلامها والاكتفاء بمصّ شفتيه. تجدر الإشارة هنا إلى أننا اختلفنا مرّات عديدة على فتح زجاج السيارة أو غلقه، فكان يغلق ويفتح، مرفوقًا بتشنّجات مكبوتة، ممّا دفع السائق إلى أن يصيح فينا: لقد خرّبتم لي الزجاج، اتفقوا فيما بينكم ثم قرّروا هل تفتحونه أم تغلقونه.

قلنا له إننا جائعون ونريد أن نتوقف في محطّة خدمات ما، فقال إنه لن يتوقف إلا عند المطعم الفلاني، لأنه تعوّد على أن يأكل عنده، فقلتُ له: "يمكنك أن تفعل ذلك حين تكون وحدك، أمّا الآن فينبغي أن تكون رهن إشارة الزبائن"، فلم يردّ علي حتى، وما عزّز غضبي أن الجميع تواطأ معه، ما عدا الفتاة.

بلغنا المطعم، فبلغتنا الروائح الكريهة والمناظر المقزّزة قبل أن ندخله. دخلناه فرأينا النادل يسارع إلى السّائق بطبق من اللحم المشوي، قبل أن يطلبه أصلًا، لقد كانت تلك مكافأته على أنه قادنا إلى المكان. قلتُ، قبل أن أقاطع الكلام وأغرق في رواية "والتيه والزيتون" للفلسطيني أنور حامد: إن "الجزائري الذي يعجز عن إرغام سائق سيارة الأجرة على أن يتوقف عند مطعم نظيف، لن يفلح في إرغام الحكومة على أن تتعاقد مع شركات مغشوشة لإنجاز مشاريع مغشوشة".

اقرأ/ي أيضًا: 

"العودة".. خيبة أمل جزائرية

عن كابوس المواصلات السودانية..