16-أغسطس-2020

محتجون في بيروت يحاكمون رمزيًا رموز النظام السياسي اللبناني (Getty)

لم تكن جريمة  تفجير ميناء بيروت وتدميره مع محيطه، الوحيدة في سجال ونقاش الكشف عن الأسباب والنتائج التي آلت إليها جرائم كثيرة على الساحة اللبنانية، ومساهمة حزب الله في قسط كبير منها، والقائمة الطويلة لجرائم الاغتيال والقتل لزعماء وشخصيات سياسية وثقافية وإعلامية بقيت دون دليل حسي ومادي وعلمي حسب خبراء الأدلة الجنائية.

إن مرحلة توجيه الاتهام انتهت منذ زمن بعيد، فالسوري ليس بحاجة لدليل حسي ومادي كي يتهم حزب الله بأنه مجرم طائفي، ولا بحاجة لتكرار وصف نظام الأسد، ولا لتوضيح مفردة التطهير العرقي جنائيًا وسياسيًا

اعتبر البعض أنه من التسرع في توجيه اصبع الاتهام لحزب الله لمسؤوليته بالسيطرة على مرفأ بيروت وباقي المعابر اللبنانية، كنوع من الإجحاف بحق الحزب، وهو ما رد عليه بعد أربعة أيام من التفجير نصر الله في خطاب " تثبيت البراءة".

اقرأ/ي أيضًا: حسن نصرالله: ازدواجية القديس والشيطان

غمز بعض "خبراء الثقافة" ممن اعتبروا توجيه الاتهام لحزب الله عن التفجير اتهامًا سياسيًا،  من زاوية إبعاد التهمة عن الحزب لعدم استنادها لأدلة موضوعية. لكن وحتى بالانتقال لساحة جرائم أخرى يواصل الحزب ارتكاب فظاعات في أرضها وناسها وبيئتها وعمرانها، مثل سوريا، بقي التشكيك في دور الحزب بهذه الجرائم قائمًا على مدار تسعة أعوام، وبقيت خبرة السوريين واللبنانيين مع أطنان الأدلة صورة وصوتًا وجثثًا مع "صيحات الثأر" المذهبي والطائفي، كلها لا تساوي شيئًا حسب مثقف الخبرة الباحث عن شيء مخفي لا يعرفه ابن الشارع، ويدركه خبراء المعرفة بالسياسة والثقافة، التي حمل لواءها مرتكبو الجرائم في سوريا ولبنان والعراق واليمن بمشهد لن يكون أوضح مما بدا عليه.

دليل الجرائم، لا يحمله المسؤولون عنها في جيوبهم، ولا وثائق ممهورة بخاتم وتوقيع يدل عليهم. جنائيًا يمكن الاستناد لهذه الفرضية لدحض هذه الاتهامات، وبحث مثقف الخبرة عن وثيقة ممهورة بتوقيع بشار الأسد أو حسن نصر الله لتعزيز التهمة والمطالبة بتشغيل العقل لتفنيد الاتهام، يعني نسف معظم الشواهد البصرية والواثائق المادية، والأخذ بنفي الحزب مسؤوليته التامة عن التفجير، كم لو أنه أقر سابقًا بمسؤوليته عن مذابح القصير واللطامنة ومشاركته بارتكاب أكثر المذابح في سوريا، وهو من أعلن على لسان أمينه العام في ذروة المذابح في حمص مقولته الشهيرة "لا شيء يحدث في حمص".

عربيًا، انكب بعض مثقفي "الخبرة" على تحديد صلاحية الاتهام من زاوية قريبة من ميكرفون الطاغية و المجرم، ولم يعد الشارع العربي يكترث لهذا الاختصاص المنشغل به خبراء التلميع والتطبيل للممانعة والمقاومة، فنظام الأسد الأب يتحمل جرائم قهر وإذلال المجتمع السوري بمذابح وزنازين وقصص وروايات وأحداث لا تنطبق مع الخبرة المطلوبة "أكاديميًا" لدور المثقف، "الواجب" أن يكون صاحب اختصاص بعيد عن توجيه سهام الاتهام والنقد.

 أما فيما يتعلق بالأسد الابن المكمل لمسيرة أبيه، فقد عجز المثقف الخبير على تأمل لوحة السوريين الغارقة في دمهم، لأن لديه مهامًا مختلفة "واسعة وكونية وأممية"، فهو يعرف ماذا غنت سعاد توفيق وكيف أدى الفنان الثوري أغنياته، ويتناول نقد الرواية بجوانب فنية وأدبية، ومنهمك في تفكيك ألوان ورموز اللوحة التشكيلية، ويقرأ ما بين سطور الشعر وأشطاره، ومتتبع حذق للسياسة الصهيونية والأمريكية ولخطوات الرجعية العربية، أما واقع الجرائم فهو ليس من اختصاصه، فهو يحيلك لجدل التكعيب ولوغاريتما فهم المؤامرات.

ديالكتيك المادية التاريخية لنخب الخبرة، عند كل مجزرة وكل فاجعة أصيب بعطب تاريخي مجلل بعار الخذلان، ويَعطب عند مطالبته بتحليل علاقة حزب طائفي ومذهبي بشعاراته المجسدة فوق المجتمع اللبناني والسوري، لكن "زمبرك" بوصلته يتحرك بدائرة واسعة لتحليل حركات وقوى إسلامية أخرى وحركات وطنية مطالبة بحريتها من الطاغية والمستبد، ومجال التحليل يصل لخبرته في توصيف قلة المعرفة والوعي للشارع العربي وشتم ومهاجمة جرأته التي طالت "رموز" الممانعة والمقاومة، التي تحت شعارها تراكمت الجرائم وتكلس الديالكتيك.

بالعودة للأدلة التي يتسلح بها مثقف الاختصاص والخبرة، والتي يعتبرها محركًا لأخلاقه، فإنه يشهر سلاحه هنا بين امتلاكه لوعي مفقود في الشارع حسب رأيه، مع وجوب أن يتحلى الكاتب من غير اختصاص التحري والتدقيق عن نشر الاتهامات.

إن مرحلة توجيه الاتهام انتهت منذ زمن بعيد، فالسوري ليس بحاجة لدليل حسي ومادي كي يتهم حزب الله بأنه مجرم طائفي مسؤول عن كثير من مآسي السوريين، ولا بحاجة لتكرار وصف نظام الأسد، ولا لتوضيح مفردة التطهير العرقي جنائيًا وسياسيًا على كثير من المناطق، فقد احتل الحزب أبدية مكانه في العقل الجمعي للسوريين كما احتل الطاغية السوري مكانته التي لا ينازعه أحد عليها، واللبنانيون أيضًا خبروا سيطرة الحزب على مفاصل الدولة والمجتمع، فهو مسؤول أخلاقيًا وسياسيًا وماديًا عن جرائم عديدة، بعد تغوله وتسلطه على اللبنانيين والسوريين تحت ذرائع "وطنية ومذهبية وطائفية"، لا يحب الاطلاع عليها خبير الأدلة الثقافية لربطها بين ميناء بيروت وموانئ عربية من البصرة إلى عدن وطرطوس، ولا المزج بين الحشيش والكابتاغون والمتفجرات. مثقف الخبرة بحاجة لرواية وأغنية وبيت شعر ولممثل وممثلة يغوص في بحرهم.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فوق ركام مرفأ بيروت

بيروت وظل مظلومية نصر الله