06-يناير-2022

كشف الجدل حول فيلم أميرة عن الطريقة الإشكالية التي يتم فيها تصور الإنتاج الثقافي (تويتر)

من ضمن قضايا عديدة أظهرها الجدل الأخير حول فيلم أميرة، برزت إشكاليات المنع والرقابة والتضييق على المنتج الثقافي. في مناسبات عديدة، نقاشات ومقالات وندوات، تم تكرار المخاوف المستمرة حول الحق في "الإبداع" وحرية التعبير. كانت كلها مخاوف مشروعة بطبيعة الحال، بالنظر إلى غياب الآليات الواضحة لمساءلة النص الثقافي والحكم عليه وتقرير مصيره. مع ذلك، فإن الجدل عينه يفتح أسئلة عديدة حول الطريقة التي يتم فيها التفكير في المنتج الثقافي، وصفه، وتأطيره في البلاغة السائدة التي يتداولها بعض المثقفين والفاعلين في الشأن الثقافي العربي.

تتم الإشارة إلى الإنتاج الثقافي غالبًا كنوع لا كمحتوى، باعتباره ساميًا، حرًا، مجردًا، مرادفًا للنقد، والسؤال والابتكار، عابرًا للتابوهات والأصنام وقضايا السياسة اليومية، ومترفعًا عن الحساسيات والعواطف العامة

تتم الإشارة إلى الإنتاج الثقافي غالبًا كنوع لا كمحتوى، باعتباره ساميًا، حرًا، مجردًا، مرادفًا للنقد، والسؤال والابتكار، عابرًا للتابوهات والأصنام وقضايا السياسة اليومية، ومترفعًا عن الحساسيات والعواطف العامة. هذه الصورة المجتزئة التي يتم تداولها عربيًا يتم فيها تعريف الإنتاج الثقافي كـ"إبداع" عقلاني، على النقيض من الحشود وقضاياهم وانفعالاتهم. صورة شبيهة (بل ويمكن التفكير فيها كامتداد) للافتراضات الليبرالية التي تجعل من العلماني والعلمي والنخبوي نقديًا، على النقيض من الديني والجمعي اللذين يتم تمثيلهما كفضاءات للتبعية العمياء، يسيطر عليها الدهماء والغوغائيون.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم أميرة: أسئلة الواقع والتمثيل والعدالة

ما يتم تجاهله في هذا التصوير المغلوط للإنتاج الثقافي، أن هذه الإنتاج- كما تخبرنا أدبيات عديدة في علم الاجتماع المعاصر - هو فعل عنيف، ينطوي على سلطة وأهلية، بقدر ما قد ينطوي في حالات ما على نقد أو مقاومة. لقد طرح النقاش الأخير حول فيلم أميرة أسئلة مهمة حول الرقابة وحرية التعبير، ولكنه يطرح أيضًا أسئلة بشأن الطريقة التي نرى ونصف فيها "الإبداع الثقافي". ففي حين يتم التركيز، على نحو مشروع، على العنف الذي يتم ممارسته من خلال المنع والحظر والتعبئة الشعبية، فإنه غالبًا ما يتم تجاهل العنف الذي تتضمنه قضايا الأهلية والتمثيل في الإنتاج الثقافي نفسه.

في حسابات الأهلية والاستحقاق والتمثيل وما تنطوي عليه من عنف، يتم التفكير في حرية التعبير كأنها حرية الإنتاج الثقافي وليس حرية مناهضته، ويُنظر إلى "الحشود" كأنها بلا حق في الكلام. إنهم أشخاص يتم الحديث عنهم، ولا يتحدثون، ولا يحق لهم الامتعاظ من الطريقة التي يتم فيها التحدث عنهم. أما الطريقة الوحيدة المسموحة لمجابهة المنتج الثقافي، وفق هذا التصور، فبمنتج ثقافي غيره. وعلى هذا النحو، تصبح الثقافة بتعريفاتها الفضفاضة وغير الواضحة، المنبر الوحيد للتعبير الحر، دون طرح الأسئلة الملحة حول من يملك الوصول والحق في الممارسة الثقافية.

خلال السنوات الماضية، تم مقاومة هذه الصورة المهيمنة في سياقات عديدة. أحد أهم الأمثلة على ذلك، هو الحراك الذي تلى احتجاجات "حياة السود مهمة"، وعبرّ عن سخط جماعي ضد الفنون والآداب الغربية الكلاسيكية، التي لم تقم فقط بإساءة تمثيل غير البيض والنساء والمثليين، بل ولعبت دورًا أساسيًا في صياغة الثقافة السائدة للعبودية والعنصرية والاستعمار والأبوية. ولعل من المفارقات الجلية، أن الحركات المعادية للعنصرية والحراكات النسوية جوبهت بنفس المبرر، ونفس التصور عن الفن والأدب باعتبارهما فوق المساءلة الاجتماعية.

أمثلة كثيرة أخرى على الطريقة التي شكل فيها "الإنتاج الإبداعي" العالم الذي نعيش فيه، فأصبح ركيزة لعلاقات السلطة وتقاليد المعرفة المهيمنة. لا تغيب هنا- ولا يجب أن تغيب- عن البال مساهمة إدوارد سعيد، وهو ناقد ثقافي بالأساس، في فهم العنف الهائل الذي تضمنه الأدب الكلاسيكي الغربي، والذي خلق، ضمن آليات أخرى، الخرائط العرقية والجغرافية للاستعمار الغربي.

أمثلة كثيرة على الطريقة التي شكل فيها "الإنتاج الإبداعي" العالم الذي نعيش فيه، فأصبح ركيزة لعلاقات السلطة وتقاليد المعرفة المهيمنة

إن التركيز على هذا العنف، ليس دعوة بالتأكيد للدفاع عن منع أي منجز ثقافي، لكن إلى النظر إلى الطريقة الخطيرة التي يوصف فيها الإنجاز الثقافي في السياق العربي. ولعل أبرز تكثيف لهذه الطريقة الإشكالية، هو وصفه دائمًا كمنجز "إبداعي"، بما يحيل دومًا إلى التجديد، ويتجاهل حقيقة أنه قد يساهم، ولطالما ساهم، في الإبقاء على الواقع كما هو، بما فيه من إشكاليات. صورة رومانسية للمنجزين الأدبي والفني، لكن إشكاليتها ليست في رومانسيتها، ولكن في عنفها، الذي يتم إخفاؤه خلف سرديات الإبداع والنقد.