12-يونيو-2017

مشهد مسلسل "لا تُطفئ الشمس" (يوتيوب)

لو سألتني عن أبرز ما يميّز الأنظمة العسكرية لأجبتك: القمع. وإذا سألتني عمّا يميز الأجهزة القمعية، لأجبتك: ترويج الأكاذيب وتزوير الحقائق والتلاعب بها، وتطويع الإعلام وترهيب أصحاب الرأي لتسهيل مهمة توجيه الرأي العام للدفة التي يريدونها. للإعلام دور كبير في الأنظمة القمعية، وأساليب السلطة للسيطرة على الأدوات الإعلامية والتلاعب بالعقول لم تتغير أو تتطور منذ أن بدأتها ألمانيا النازية.

هناك مسلسل مصري يُعرض في رمضان الجاري، يُسمى "لا تُطفئ الشمس"، مأخوذ من عمل قديم للروائي المصري إحسان عبدالقدوس، وكتب السيناريو والحوار السيناريست الشهير تامر حبيب، وأخرجه محمد شاكر خضير.

ما يُميز الأجهزة القمعية هو ترويج الأكاذيب وتطويع الإعلام وترهيب أصحاب الرأي لتسهيل مهمة توجيه الرأي العام

في الحلقة 14 من المسلسل فوجء المشاهدون بظهور جدارية "CC خاين"، في خلفية إحدى المشاهد، وهي جدارية مشهورة يرسمها المعارضون للنظام الحالي، وكما هو واضح يُقصد من "CC" الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. 

اقرأ/ي أيضًا: دراما رمضان المصرية.. فضائح الأسبوع الأول

العديد من المشاهدين احتفوا بهذا المشهد في المسلسل، وهو مشهد غير مقصود فمثل هذه الجداريات تملأ القاهرة، واعتبروه انتصارًا شخصيًا. أما أنا فتوقعت ألا يأخذ الأمر أكبر من حجمه، وألا تعيره السلطات أي اهتمام، لكن المحامي سمير صبري المثير للجدل خالف توقعي، بتقديمه لاغًا للنائب العام لوقف عرض المسلسل وتقديم مخرجه للمحاكمة بتهمة "إهانة رئيس الدولة"!

مباشرة حذفت القناة التي يُعرض عليها المسلسل المشهد من على قناتها على موقع يوتيوب، ثم أعادت نشره بعد تعديله بحذف الجدارية المثيرة للجدل، كما تقدمت الشركة المنتجة في بيان عاجل، باعتذارها عما أسمته "خطأً غير مقصود في نسخة المونتاج ظهر في نص عبارة من مخلفات الإخوان الإرهابية".

وقد يكون هناك بعد آخر لهذه الضجة الفارغة وهو وجود الممثل الشاب أحمد مالك في المشهد الذي ظهرت فيه الجدارية، وهو ممثل له واقعة سابقة معارضة للنظام فيما عُرف إعلاميًا بـ"موقعة الكاندومز"

في كل مرة أقرر فيها الرهان على النظام من حيث أن أتوقع ترفعه عن العديد من التفاهات التي لا ترقى إلى أن تكون معركة من الأساس، وفي كل مرة أقول إن هذا النظام، مع غبائه، لن ينجر لتضخيم مسائل تافهة؛ في كل مرة أخسر الرهان ويُحرجني غباء النظام الذي يبدو أنه يتعمد تضخيم المسائل التافهة، وصنع المعارك الوهمية، وكأنه لا يعرف انتصارًا في المعارك المصيرية، فيغطي هذا الفشل بمعارك وهمية وأعداء وهميين يمكنه الفوز عليهم.

من يتابع تعاطي النظام العسكري مع الإعلام، سيدرك أنه لا فرق منذ عهد عبد الناصر، الفرق الوحيد هو أن عبد الناصر كان أوفر حظًا، فلم تكن الفضاءات مفتوحة مثل الآن ولم تكن منصات الإعلام والصحافة متعددة، فكانت سيطرته أسهل على الأبواق الإعلامية، وكما قال السيسي فإن عبد الناصر "كان محظوظًا بإعلامه". 

يضع السيسي نموذج إعلام عبدالناصر نصب عينيه، ويسعى جاهدًا لتكرار التجربة والسيطرة على وسائل الإعلام والصحافة، بشرائها أو بحجبها

ومنذ ذلك التصريح من ثلاث سنوات، ويبدو أن السيسي يضع نموذج إعلام ناصر نصب عينيه ويريد تكرار التجربة، ويسعى بكل جد على السيطرة على منصات الإعلام والصحافة كافة، إما عن طريق الحجب والمنع أو تلفيق التهم والتهديد الأمني، ولهذا السبب نلاحظ غضب نظام السيسي من مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أنها منصات بلا رقيب، لا يمكن السيطرة عليها، ولا يمكن تطويعها بالأمر العسكري المباشر.

اقرأ/ي أيضًا: "لا أرى لا أسمع لا أتكلم".. خطة الإعلام المصري

رجوعًا إلى مسلسل "لا تطفئ الشمس"، يبدو أيضًا أن النظام العسكري يكره بشدة توثيق الأحداث على الجدران والحوائط، وله باع طويل في مسح رسومات "الغرافيتي" التي توثق للثورة، بخاصة تلك التي كانت في شارع محمد محمود، فيمكن للنظام بكل سهولة أن يتلاعب بالحقائق ويزور التاريخ ويشتري ضمائر المؤرخين بثمن بخس، ولكن لا يمكنه أن يزور رأي الشارع وغضب الناس المرسوم على الحوائط. 

حتى عبد الناصر نفسه بمنظومته القمعية، وصعوبة التوثيق والتصوير في زمنه وحينه، إلا أن هناك صورة نجت لجدران سوريا، تحمل شعارات "يسقط الدكتاتور جمال" و"يسقط الطاغية جمال الأمريكي"، وذلك أثناء فترة الجمهورية العربية المتحدة، لتوضّح لنا تلك الصورة، القليل من الجانب الغامض لتلك الفترة والذي لم تتناوله كتب المؤرخين وأفلام السينما ومانشيتات الجرائد. 

جدارية في سوريا في عهد الجمهورية العربية المتحدة

وعلى نفس القياس، فيمكن للسلطة أن تحذف المشهد المذكور من المسلسل، لكن لا يمكنها حذف الجملة من فوق الجدران، وإن حذفتها، فهناك آلالاف الحوائط والجدران التي تحمل نفس الشعارات، وإن مُسحت تلك الشعارات من الجدران كافة، فهي محفورة بذاكرة الملايين، وموثقة بآلاف الصور والفيديوهات، فيالسوء الحظ، فنحن في عام 2017 ولم نعد في خمسينات القرن الماضي حيث صعوبة التوثيق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا يزعج عزمي بشارة إعلام السيسي.. إلى هذا الحد؟

قلبي مع العسكري الذي لا يلبس الكوندوم