20-ديسمبر-2016

حدّت عديد العوامل من سلطة الحكاية بمفهومها القديم داخل البيت الجزائري(Getty)

لا تخلو إجابة كاتب جزائري عن سؤال: "كيف جئت إلى الكتابة؟"، من الإشارة إلى دور حكايات الجدّة قبل النّوم، في برمجته على الكتابة، وحقنه بسحر الحكي ممارسة واستماعًا، حتى تظنّ أن جميع من يكتب اليوم، هم خرّيجو هذه الإنسانة/ المدرسة التي لا تقرأ أو تكتب حرفًا.

حدّت عديد العوامل من سلطة الحكاية بمفهومها القديم داخل البيت الجزائري

يقول الروائي محمد جعفر: "في طفولتي استبدت بي الغيرة من أقراني، وأنا أنصت إلى حكاياتهم. كنت أسألهم عن مصدرها، فيقولون إنهم سمعوها ليلًا من جداتهم. كنت حينها أركض باتجاه جدتي وأطالبها بأن تروي لي حكاية ما. وكانت تقول لي إنها لا تعرف سرد الحكايات، حتى حدث أن زارتنا في البيت أخت لها عجوز. كان ما تسرده أجمل بكثير من كل تلك القصص التي سمعتها، فما كانت ترويه ذو نكهة خاصة، بإسرافها في التشويق والإثارة وتأكيدها على المغزى. وأذكر أنه لما حان وقت عودتها، حزنت لفراقها وبكيت عليها".

اقرأ/ي أيضًا: أطياف رضوى عاشور.. خفة لغة الحكاية

في السياق، يستحضر الكاتب والمربّي محمد بوطغان زمن الحكاية قائلًا: "كنا نختصر جدّاتنا في حكاياتهن، وكنا نترقب الليل من أجلها، بل إن الجدة كانت تهدّدنا، في حالة رفضنا القيامَ بواجب من الواجبات، بأنها ستحرمنا من الحكي ليلًا، لأننا كنا نرى في النوم بلا حكاية عقوبة فعلية". ويضيف: "كانت الحكاية نافذتنا الوحيدة التي نطل منها على عوالم مختلفة عن معيشنا اليومي، في ظلّ افتقادنا للكهرباء وما يترتب عنها من وسائل معاصرة مثل التلفزيون".

في الساحة المقابلة لبلدية الرغاية، 35 كيلومترًا شرقًا، تجتمع العجائز المسنّات في الفترات التي يتوفر فيها الظل وصفاء الطقس، ويُقمن تجمعاتٍ صغيرة لتبادل الأحاديث التي يغلب عليها طابع الشكوى من الهوّة التي صارت تفصلهن عن الجيل الجديد في أسرهن. تقول إحداهن: "هل ستصدّقني إذا قلت لك إنني لا أتحدّث داخل البيت، لانشغال الجميع عني، ولولا هذه الساحة التي ألتقي فيها عجائز من سني لاختنقت؟".

كنّ يتنافسن في الحديث لـ"الترا صوت"، فكأنهن مسجونات، وجدن فرصة للتعبير عمّا يعانينه من كبت وتهميش. تقول أخرى: "لا فرق بيني وبين الأغراض القديمة المزهود فيها في البيت، فلا يستعملها أحد، إبني يدخل متأخرًا من العمل وحفيداي يتخذان من البيت مرقدًا لا غير، وإذا حدث أن دخلا باكرًا، فهما يُغرقان نفسيهما في هاتفيهما، أما حفيدتي الوحيدة، فإما تراجع دروسها، أو تتابع مسلسلاتها".

طرحنا عليهن هذا السّؤال: "هل تحكين حكايات لأحفادكن قبل النوم؟"، ذلك أنه من المستهجن في الثقافة الشعبية الجزائرية أن يكون الحكي في النهار، فاختلفت الإجابات كالتالي: "أنا أقيم مع زوجي، وأحفادنا لا يزوروننا إلا مرتين في الشهر، خلال نهايات الأسبوع، لقد باتت أسرتنا بلا روح، وهو وضع جعل الجلوس للاستماع إلى حكاية من الجدة أو الجد من الذكريات"، "كثيرًا ما أطلب منهم أن يتركوا التلفاز أو الهاتف، لأقصّ عليهم حكاية، لكنهم يستقبلون عرضي بنفور ظاهر"، "أفعل ذلك مع أحفادي الأقل من عشر سنوات، أما الأكبر من ذلك، فلا يتفاعلون معي في هذا الباب".

يرى الجيل الجديد من الشباب في حكايات الجدة "وجبة بائتة" لا تثير اهتمامه

وقفنا عند مدخل ثانوية جمال الدين الأفغاني في مدينة معسكر، 400 كيلومتر غربًا، وطرحنا هذا السؤال على نخبة من التلاميذ: "هل تطلب من جدتك حكاية قبل النوم؟"، فكانت الإجابات كالتالي: "لا أجد وقتًا لذلك، في ظلّ تراكم الواجبات والانشغالات، وما يبقى لدي من وقت أنفقه في فيسبوك أو اللعب مع الأصدقاء"، "جدتي لا تعرف إلا حكايات الغول والحيوانات، وأنا لا تغريني تلك المناخات، لقد كانت أول رسوم متحركة شاهدتها "البوكيمون"، وذلك حدّد أفقي في الإقبال على حكاية ما أو الإعراض عنها"، "كنت أفعل ذلك في المرحلة الابتدائية، أما اليوم فلا أجد الرغبة في ذلك، لأن رصيد جدتي من الحكايات محدود".

اقرأ/ي أيضًا: دمشق ما قبل الكتابة.. خريطة معاناة

إن كثيرًا من الإجابات التي تلقيناها، تشير إلى العوامل الموضوعية التي حدّت من سلطة الحكاية، بمفهومها القديم، داخل البيت الجزائري، منها أن الجيل الجديد بات خاضعًا لسياقات مختلفة، تجعله يرى في حكايات الجدة "وجبة بائتة" لا تثير اهتمامه، وقد ربط أحدهم الاستماع إليها، بضرورة خلق الظروف نفسها التي كانت تُحكى فيها سابقًا: "لقد لاحظت أننا نبادر إلى تشغيل ذاكرة الجدة، حين نذهب إلى القرية، بحيث يكون تدفق الانترنيت منعدمًا أو ضعيفًا".

هنا، يرى الإعلامي والناشط الجمعوي رياض وطار، أن أية قراءة للعلاقة بين الجيل القديم والجيل الجديد، بعيدًا عن مفهوم هذا الأخير للتواصل يُعدّ تعسّفًا. "إن الشابّ الجديد يشعر بالاختناق داخل مجتمع لا ينتبه إلى مواهبه وطاقاته ورغباته ورؤاه، لذلك فهو يغرق في مواقع التواصل الاجتماعي، لأنه يجد فيها راحته مع من يقاسمونه التفكير والرغبات والرؤى نفسها، بحيث تصير الجدة، في نظره، رمزًا للمنظومة القديمة".

ولم يقلل وطار من دور المسلسلات التركية وشبيهاتها، خاصة بعد ترجمتها إلى اللهجات المحكية، في برمجة الجيل الجديد، على عوالم لا تستطيع الجدات مواكبتها، "وهو ما أسّس لهوّة سحيقة بين الجيلين، لم تكتفِ بخنق حكايات الجدات في حلوقهن فقط، بل باتت تدفع بهن إلى دور الشيخوخة أيضًا".   

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم حكاية الحكايات.. الواقع بعيون أسطورية

راوية الحكايات