يكنّ اليمنيون المقيمون في مصر حبًا خاصًا لأم الدنيا، ويعتبرونها بيتهم الثاني، انطلاقًا من عبارتهم الشهيرة: "لكل عربي وطنان، أحدهما مصر". هذا البلد الذي فتح أبوابه لهم منذ أكثر من 14 عامًا، إذ لم يجدوا فيه اختلافًا كبيرًا عن بلدهم الأم، باستثناء بعض الطقوس القليلة التي لا تكاد تُذكر.
وتشكل الجالية اليمنية عنصرًا مهمًا ومؤثرًا في خارطة الجاليات العربية والأجنبية في مصر، إذ تحتل المرتبة الثالثة بعد السودانيين والسوريين، ومع ذلك، فهي من أكثر الجاليات هدوءًا والتزامًا بقوانين الدولة المضيفة، فنادرًا ما يُسمع لهم صوت، ولم يُعرف عنهم إثارة أي مشكلات، بل على العكس، لا يُرى منهم إلا كل خير.
ويُمثل اليمنيون في مصر حالة استثنائية، إذ يشكلون مجتمعًا متكاملًا رغم تمايزه، متناغمًا رغم تعدده، حيث يجتمع تحت لوائه مختلف الأطياف، من فارّين بأرواحهم من ويلات الحرب، إلى نازحين جاؤوا للعلاج، ومستثمرين ورجال أعمال يملكون استثمارات ضخمة في الاقتصاد المصري، وطلاب يتلقون تعليمهم، وباحثين عن فرص عمل وحياة أفضل.
تباين في الأرقام
كعادة جل الجاليات العربية المقيمة في مصر، خاصة تلك التي نزحت بعد أحداث الربيع العربي في 2011، هربًا من جحيم النزاعات والحروب التي شهدتها بلدانها، تعاني تقديرات أعداد اليمنيين في مصر من تفاوت واضح وكبير بين الأرقام الرسمية الصادرة عن المنظمات الأممية، وبين التقديرات الفعلية التي، في الغالب، تتجاوز نظيرتها الرسمية بمستويات قد تصل في بعض الأحيان إلى الضعف تقريبًا.
تُمثل الجالية اليمنية رقمًا صعبًا ومهمًا في خارطة الجاليات العربية والأجنبية في مصر، إذ يحتلون المرتبة الثالثة بعد السودانيين والسوريين، ومع ذلك فهم أكثر الجاليات هدوءًا
وبينما تشير تقديرات صادرة عن ملحقية شؤون المغتربين بالسفارة اليمنية بالقاهرة إلى أن العدد الإجمالي لليمنيين المقيمين في مصر يتراوح بين 80 – 100 ألف شخص، يذهب أخرون إلى أن العدد يتجاوز 150 ألف، هذا بجانب غير المدرجين على قوائم الأمم المتحدة والسفارة اليمنية، وعددهم كبير، وإن لم تكن هناك إحصائيات رسمية بها.
وقدّرت المنظمة الدولية للهجرة، في تقرير لها، عدد اليمنيين المقيمين في مصر، بشتى طوائفهم، بمليون شخص، حيثُ يحتلون المرتبة الثالثة في عدد المهاجرين واللاجئين الذين تحتضنهم الدولة المصرية، بعد السودان (4 ملايين) وسوريا (1.5 مليون)، من أصل تسعة ملايين مهاجر ولاجئ قدموا من 133 دولة.
التقرير الصادر عن المنظمة الدولية لفت إلى أن غالبية الجالية اليمنية في مصر، ما تقدر نسبتها تقريبًا بـ56% منها، يقيمون في خمس محافظات فقط من إجمالي 27 محافظة مصرية، تتركز جميعها في شمال مصر والدلتا، وهي: القاهرة ،الجيزة ،الإسكندرية ،دمياط ،والدقهلية، فيما تتصدر مناطق بعينها قائمة الأكثر تكدسًا باليمنيين مثل منطقة الدقي بوسط الجيزة والمنيل بحي مصر القديمة بالقاهرة.
لماذا مصر؟
وفق ما كشفته اللجنة الدولية للصليب الأحمر نهاية 2018، فإن الحرب الدائرة في اليمن بين الحوثيين والقوات الموالية للحكومة منذ 2014 تسببت في نزوح ما يزيد عن 3.7 مليون مواطن خارج بلدهم، كان نصيب مصر منهم مليون شخص، بما نسبته 30% تقريبًا من إجمالي عدد الذين فروا بحياتهم من ويلات المعارك الضارية التي لم تتوقف حتى كتابة هذه السطور.
وعن اختيار مصر تحديدًا كقبلة للاجئين اليمنيين، يقول حذيفة ( 53 عامًا) إن هناك قواسم مشتركة كبيرة بين المصريين واليمنيين، وأن المجتمع المصري من أكثر المجتمعات العربية تشابهًا مع الطبيعة اليمنية، فضلًا عن التيسيرات الممنوحة لليمنيين بدايات الحرب لدخول الأراضي المصرية والإقامة فيها، مقارنة بغيرها من البلدان الأخرى.
وأضاف الخمسيني اليمني في حديثه لموقع "الترا صوت" أن كرم المصريين واحتضانهم للأشقاء من البلدان العربية كان دافعًا قويًا لاختيارها كوطن بديل، على حد وصفه، منوهًا إلى أن بعض أفراد أسرته كانوا في مصر قبل نشوب الحرب، وأنهم من شجعوه على ذلك حين قرر مغادرة بلاده في 2015.
ويستعرض الصحفي اليمني المقيم في مصر، علاء الطاهر، بعض التسهيلات والاستثناءات الممنوحة لليمنيين الراغبين في السفر إلى الأراضي المصرية، والتي شجعت الكثير من النازحين على جعل القاهرة قبلتهم الأولى، منها السماح لمن هم دون سن الثامنة عشر وفوق سن الستين، بالدخول دون تأشيرة مسبقة، مثلهم مثل حاملي الجوازات الدبلوماسية.
أما فئة الشباب بين هذين المستويين، من يبلغ سنهم بين 18 و60 عامًا، فالأمر لم يكن معقدًا كما يحدث في بلدان أخرى مجاورة، بحسب الطاهر الذي أضاف في حديثه لـ"الترا صوت" أن الأمر لا يتطلب سوى وثيقة سفر صالحة لمدة لا تقل عن 6 أشهر، أما من يريد الدخول لغرض العلاج فما عليه سوى تقدير تقارير طبية، كذلك القادمين بهدف الدراسة أو الأغراض التعليمية والعلمية، فيشترط ما يثبت ذلك فقط.
وألمح أن الغالبية العظمى من اليمنيين الذين دخلوا مصر بعد 2014 حصلوا على تأشيرات وإقامات سياحية مجانية لمدة 6 أشهر، فيما قدمت لهم الحكومة المصرية والجهات الأممية المعنية تخفيضات كبيرة في تكاليف العلاج والخدمات الصحية في المستشفيات المصرية لمن قدموا بغرض التطبيب وتلقي العلاج.
وتعد مصر الوجهة المفضلة للمرضى اليمنيين الباحثين عن العلاج الجيد بكلفة أقل، كذلك الكوادر الطبية اليمنية، ففي السنوات الأخيرة دشن عدد من الأطباء اليمنيين المتواجدين في مصر لجنة طبية، بالتعاون مع وزارة الصحة المصرية، هدفها خدمة المرضى من أبناء الجالية، وبأسعار رمزية، بهدف تقليل الضغوط الممارسة عليهم خاصة وأن كثيرًا منهم لا يملك رفاهية العلاج في المستشفيات الاستثمارية الخاصة.
مجتمع استثماري ومجلس أعيان النخبة
بعيدًا عن الاتهامات المزعومة التي توجه للجالية اليمنية في مصر بالفقر والعوز، وأنهم سبب رئيسي في الأزمة الاقتصادية التي تحياها مصر، وتؤثر بطبيعة الحال على الوضع المعيشي للمصريين بعدما شاركوهم الخدمات المحدودة المقدمة لهم، وهي ذاتها الاتهامات الموجهة لبقية الجاليات الأخرى، فإن الواقع يشير عكس ذلك بشكل كبير.
وبلغة الأرقام والإحصائيات، يلعب اليمنيون دورًا محوريًا في إنعاش الاقتصاد المصري من خلال مئات الملايين من الدولارات التي يضخها رجال الأعمال اليمنيين المقيمين في مصر في السوق المحلي، لاسيما في قطاع العقارات، إذ هناك ما يقرب من 20 ألف عقار اشتراهم اليمنيون للسكن في مصر، بمتوسط 50 ألف دولار، في مناطق فيصل والهرم وأرض اللواء والمنيل والمهندسين والزمالك والرحاب والشيخ زايد والتجمع، وفق ما ذكر رجل الأعمال والمحلل السياسي اليمني فهد العريقي.
ويضيف العريقي الذي يرأس ما يُسمى بـ"مجلس أعيان الجالية اليمنية في مصر"، الكيان الذي شكله نخبة رجال الأعمال اليمنيين المقيمين في مصر، للحفاظ على مصالح علية القوم وكبار المستثمرين، ويضم مجموعة من النواب السابقين والسفراء والمهندسين والأطباء، أن استثمارات اليمنيين في السوق المصري تُقدر تقريبًا بنحو 250 مليون دولار في قطاعي العقارات والمخبوزات.
ومن أبرز الشركات التي أسسها اليمنيون، وتعمل في السوق المصري، شركة الصلاحي المتخصصة في الأمن الغذائي وإنتاج الدواجن، التي تأسست في مصر بعد الحرب، بجانب كيانات أخرى يمتلكها نخبة من كبار المستثمرين اليمنيين، على رأسهم رجل الأعمال المعروف، هايل سعيد، المتخصص في منتجات السمنة والزيت، وصديقه شاهر عبد الحق في مجال تعبئة المياه الغازية.
ويشير رئيس مجلس الأعيان اليمني إلى أن البيئة المصرية خصبة ومناسبة للاستثمار، وأنه بعد صعوبة العودة لليمن في ظل استمرار الحرب، كان لا بد لرجال الأعمال اليمنيين من البحث عن بديل للبقاء حيث إقامة المشروعات والتوسع في النشاط الاستثماري، مستفيدين من الامتيازات والتسهيلات التي قدمتها لهم الحكومة المصرية، وهو ما أدى لاحقًا إلى زيادة أعداد رجال الأعمال القادمين من بلدان أخرى مثل السودان وموريتانيا والأردن.
الابتعاد عن السياسة
يتعامل اليمنيون مع المشهد المصري بذكاء وحنكة اجتماعية مميزة، كانت سببًا في استمرار بقائهم طيلة السنوات العشرة الأخيرة دون أن يتعرضوا لأي نوع من أوجه النقد والهجوم الذي تعرض له أبناء الجاليات الأخرى، حيث ارتأوا الابتعاد عن السياسة والقطيعة التامة مع كافة الأنشطة السياسية، أيًا كانت بواعثها، حتى الحديث عن الحرب كان في أضيق الحدود.
وتحترم الجالية اليمنية في مصر ما أسموه "اعتبارات ومحددات الضيافة"، حيث الالتزام بقانون الدولة المضيفة، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتجنب الزج باسمها في أي أحاديث من شأنها الإساءة أو الانتقاد، مكرسين كل حياتهم في طقوسهم المعيشية اليومية، التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي وفقط، وهو ما أبقاهم بعيدين عن أيادي السلطة الأمنية المصرية.
جدير بالذكر هنا، أن الجالية اليمنية في مصر تضم العشرات من أسر السياسيين والحزبيين اليمنيين، ممن كان لهم حضورهم السياسي في بلادهم، إلا أنهم يحرصون جيدًا على تجنب ممارسة أي نشاط سياسي داخل مصر، وعدم وضع القاهرة في موقف حرج، ومن يرغب منهم في الإقدام على أي عمل سياسي عليه التوجه إلى العاصمة السعودية الرياض، حيث المقر المؤقت للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.
تمسك بالتراث
"الانصهار في المجتمع المصري لم يٌنسينا تراثنا وهويتنا"، بهذه الكلمات استهل صالح، صاحب أحد المطاعم اليمنية بالجيزة، حديثه لـ"الترا صوت" بشأن حرص الجالية اليمنية في مصر على التمسك بهويتها وتراثها في طقوس حياتها، مشيرًا إلى أن اليمنيين – كما السوريين – بارعون في تصدير ثقافتهم للأخرين وليس العكس، على حد تعبيره.
وأضاف أن اليمنيين حريصين على التمسك بهويتهم في المأكل والمشرب والملبس، خاصة كبار السن منهم. أما الجيل الناشئ والذي ولد في مصر أو قدم إليها وهو صغير، فعلى الأغلب يتأثر بالعادات المصرية في معظم الطقوس، لافتًا إلى أن عشرات المطاعم التي تقدم الأكل اليمني منتشرة في ربوع القاهرة والجيزة، وتحقق نجاحات هائلة وعليها إقبال غير متوقع.
ورغم تميز المصريين بوجباتهم الشهيرة مثل "الكشري" و"المحشي"، إلا أن المطبخ اليمني فرض نفسه بشكل كبير، حيث تكدس المصريين داخل المطاعم اليمنية التي تقدم الوجبات المعروفة، مثل "المندي" و"السلتة"، في سلاسل مطاعم حضرموت والبخاري وغيرها ممن سحبت البساط من تحت الكثير من المطاعم المصرية.
التراث الثقافي كان هو الأخر حاضرًا وبقوة بين الجالية اليمنية، حيث عشرات المقاهي اليمنية في أحياء الدقي وجامعة الدول العربية والمنيل، والتي تحولت إلى ورش عمل وملتقى للتبادل الثقافي والفكري بين اليمنيين وغيرهم من الجنسيات الأخرى، ناهيك عن دور النشر اليمنية التي تأسست في القاهرة مؤخرًا، منها دار "أروقة" التي صدر عنها نحو مائة عنوان تقريبًا خلال عام واحد فقط، ودار "عناوين بوكس" التي أصدرت منذ تأسيسها عام 2020 أكثر من 160 عنوانًا في فروع الترجمة المختلفة.
التعليم والإقامة.. أبرز المشاكل
لا يعفي اندماج اليمنيين في المجتمع المصري من وجود العديد من التحديات والمشكلات التي تواجههم، والتي تنغص في كثير من الأحيان حياتهم، خاصة تلك المتعلقة بالسكن والإقامة، حيث الارتفاع الكبير في إيجارات الوحدات، والتي تبلغ أضعاف قيمتها للمصريين، حيث يستغل بعض من أصحاب العقارات الأزمة اليمنية واحتياج اليمنيين لأماكن للإقامة، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب من خلال رفع القيمة الإيجارية بصورة مبالغ فيها أحيانًا.
وفي الوقت الذي تبلغ فيه إيجارات الوحدات السكنية في منطقة الدقي للمصريين 8 ألاف جنيهًا، نحو 160 دولارًا أميركيًا، تتجاوز بالنسبة لليمنيين ومثلهم من بقية الجنسيات الأخرى حاجز الـ15 ألف جنيهًا، نحو 300 دولارًا، وربما تصل إلى ضعف هذا المبلغ، إذا ما كانت الوحدة مفروشة وصالحة للسكن فورًا.
الطلاب اليمنيون الذين يتلقون تعليمهم في مصر، يعانون هم الأخرون من مشاكل وأزمات، معظمها مادية، خاصة مع تأخر وزارة التعليم العالي اليمنية في إرسال التحويلات المالية للطلبة، مما قد يدفع بعضهم للبحث عن عمل بعد ساعات الدراسة من أجل الوفاء بمتطلبات الحياة التي يراها كثير من اليمنيين مكلفة إلى حد ما.
وكانت الملحقية اليمنية بالقاهرة قد تعرضت لاتهامات فساد خلال السنوات الماضية بشأن الاستيلاء على الحوالات المالية القادمة للطلاب اليمنيين الدارسين في مصر، والتي تقدر بنحو 700 ألف دولار، مما زاد من وضعية الطلاب المتأزمة، وقد حُول المتورطون في تلك الجريمة للتحقيق والعزل من مناصبهم.
ورغم حالة الاندماج، الأقرب للانصهار، التي عليها الغالبية العظمى من اليمنيين، الذين بات من الصعب التفرقة بينهم وبين أشقائهم المصريين، إلا أن ذلك لم يفت أبدًا في عضد الحنين للوطن، حيث أمنيات العودة لليمن السعيد، تلك الأحلام التي تسلب من اليمني عقله وفؤاده، في انتظار اللحظة المناسبة التي يُقال لهم فيها "الآن انتهت الحرب ومسموح لكم بالعودة"، تلك اللحظة التي لم تفارق خياله، مهما طال أمد التغريبة وتعددت مناقب الوطن البديل.