05-نوفمبر-2018

بريدراغ سربلانين/ صربيا

وفق الروائز امتداحُ الجوائز

النص موضوعُ الفوز، لم يكن معدًّا ليحتفى بهِ، كانت الصدفةُ هي التي قَرّبتني من إعلان في صحيفة شبه ممنوعة ويتم تداولها على نطاق ضيق، وهذا إن عنى أمرًا فسيكونُ ذلكَ الموقف الضمني من الجوائز عمومًا، ويتلخّص في أنّ هذا التكريم اللحظي قد يرتبط بمحسوبيات كثيرة وظروف وحيثيات. في كثير منها تحايلٌ وتزويرٌ لا يمسُ البيئة الحقيقية لمجملِ مناحي الحياة، يقول صديقي: "الجائزة صكّ اعتراف بالقيمة"، ويقول أيضًا: "الجائزة باب واسعٌ مفتوحٌ على المنافسة والندية"، ولم أكن آنذاكَ لأقرأ الآراء الضدّ ولا الآراء إلـ معَ، مدفوعًا بالهالةِ التي يخلفها هذا الالتفات، محققًا القيمتين المادية والمعنوية، بما يتركانهُ من أثر وراحة!

هذا ليس تنظيرًا، ولو كانَ تنظيرًا فهو بائسٌ، فيما لو دخل القارئ المتنَ ليتبينَ، كيفَ يمكن لجائزة أن تثير التندّر أكثر من الزهو، على الأقل في حالتي، وفيما بعد ما لمستهُ في حالِ بعض الأصدقاء والذين صراحة لديهم القدرة على المنافسةِ الحقيقية لو تشاركت معهم نصوص مستوفية لشرط الإبداع وأسماء فاعلة ومجتهدة، ها هم يعلنونها صراحة بأنّ لديهم اعتبارات أخرى في التقدم إلى الجوائز خلا القيمة المعنوية وتلك البهجة التي يحققها الفوز لهم.

النّبأ الهام عن فوز الفتى الهمام

كانَ ذلكَ في العام 1994 عندما أعلنَ الحزبُ الشيوعي السوري عن جائزةٍ بمناسبةِ صدورِ العددِ 500 من "نضال الشعب"، وحدثَ أنْ أخذتُ جائزة الشعر إلى جانبِ مخلص ونوس والمصري محمود المغربي -رحمه الله- ولأنني كنتُ مقاتلًا في الـ"كوماندوس" خَبرتُ بفوزي متأخرًا؛ فلم أحضر التكريم؛ ولم أتسلّم جائزتي، إلى أنْ أقترحَ عليَّ محمد المصلح الذهابَ إلى مكتبِ الحزب في الميسات، لنلتقي بالدكتور قدري جميل، قبلَ أن ينشقّ عن خالد بكداش. قالَ ممازحًا: "بما أنكَ ما حضرتْ الحفل مالك جائزة"، وأكملَ: "جائزتك صارتْ بالحسكة عند الرفيق سالم علو"، كان هذا القول كفيلًا لأحثّ الخطى خلفَ بهرج برّاقٍ، سيما وأنّ الجائزة شملت الأدبَ والفنونَ وانفتحت على شيوعيي الوطن العربي للمشاركة، وهذا كلّه جعلُ التفكير بحجم المكافأة كبيرًا وممكنًا، وقد تفي بالكثير الذي أمّلت نفسي وأصدقائي به، في حين كانَ تركُ "الجبهة" في دمشق أمرًا يتطلبُ ترتيبات خاصة تبدأ بوعد واضح بـ تنكة سمنة عربية أو تنكة جبنة كوجرية، وتنتهي بمبلغ يغطي تكاليف "غدا" لأولاد المساعد أول، وبلا هذه الوعود المحققة بـ"الصرماية" على المقاتل الانتظار لأشهر، لأنّ تركهُ لموقعهِ يعني وصول إسرائيل إلى مقهى الروضة.

استبيانُ المعالم عن الرفيق سالم

في أولِ إجازة لي عقبَ الحدثَ الجَلل، أخبرتُ نصفَ أهلِ الحسكة عنِ "العزيمة" التي سأقيمها فورَ تسلمي للمبلغِ والهدية الرمزية، وبالفعل في ليلةٍ ظلماءَ ممطرةٍ، توجهنا المحامي شيخو يوسف ونجدت علي وأنا إلى منزلِ الرفيق الواقعِ في أطرافِ حي الصالحيةِ الموحلِ، وقبلَ بلوغِ البيتِ وبينما نعبرُ سيلًا شكلتهُ الأمطار، سقطتْ فَردةُ حذائي، فغطسنا ثلاثتنا في عملية البحثِ المضنيةِ. كنتُ كُلّما أصابهم اليأس، أذكرُهم بفروج البروستد وعرقِ البطة موضوعا الوعد، فيزدادون حماسةً دَلتنا على ضالتنا، على أمل بأنّ الجزء الأصعب أصبحَ خلف ظهورنا!

المكارم في غياب المغانم

ما إنْ دخلنا الحوش حتى رحنا إلى الحنفيةِ لنرممَ ما أفسدهُ جدولُ الطينِ قبلَ قليلٍ، ثمّ جلسنا كطيورٍ ضخمةٍ مبللةٍ، أرخى الرفيقُ المازوتَ للصوبة، ودخلنا عقبَ الترحيب والسؤال عن الحال في أحاديثَ كثيرة عن انتصاراتِ الشيوعيةِ والمقارنات بين لينين وستالين وهجمات الاستعمار والإمبريالية العالمية ودكتاتورية البروليتاريا، وتداعيات دخول صدام حسين الكويت، وحكمة "الجبهة الوطنية التقدمية"، شربنا القهوةِ والشاي، ثمّ التفتَ إليَّ الرفيق قائلًا: "نحن فخورون بك، وفوزك فوزنا"، وهنا أيقنتُ أن ساعة الصفر حانت واقتربت الحقيقة. نادى على ابنهِ بأنْ يأتي بالجائزة، وبعد بحثٍ واستنفارٍ عائليين، جاء الطفلُ ومعهُ قلمٌ رصاصي اللونِ، ما أنْ أعطاني إياه، شعرت بمغص شديد، وقرأت في عيني مرافقيّ السخرية والشماتة والخذلان، قلتُ أداري صدمتي فاختبأت خلف تحريك القلم ومداعبته، ليفلتَ راصوره، وتطير أجزاءه في فضاء الغرفة، لندخلَ ثانية في عملية بحثٍ، أرجعَت القلم إلى وضعه الـ كانَ.

مغادرين وعلى وجوهنا هائمين

عُدنا الثلاثةُ بقلمٍ مكسورٍ وقلوبٍ مكسورة وأنا الحافي، كنا نغني أغنيةَ الحزبِ الشعبيةِ الأثيرةِ: "اسمهو مناضل، أطيب أكلو فلافل"، وأنهينا أغنيتنا بـ"سالم حزبنا.. سالم حزبنا". الآن وأنا أعيدُ القصة بنسيان لأغلب تفاصيلها، أسألُ ما الذي بقيَّ سالمًا، أنا في ألمانيا، الرفيق سالم سمعتُ أنّه توفي، نجدت أخبارهُ ضاعت، صديقي المحامي يدير بسطة في تركيا ويصنعُ الفلافل. وما زالت سيولُ بلدي تجرفُ الأتربة والأشجار والجثث ربّما!

 

اقرأ/ي أيضًا:

تميمةُ العاجز.. أرسلها لتصبح عميدًا في البحرية!

القراءات المُذلّة للكتاب