21-يونيو-2018

المفكر العربي عزمي بشارة

قدّم المفكّر العربيّ عزمي بشارة في كتابه "في الثورة والقابلية للثورة" (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2016، ط3) عملًا شديد الأهمية لجهة الأفكار التي تضمّنها من جهة، وتاريخ صدوره من جهة ثانية. إذ إنّ الكتاب لامس واحدًا من أكثر الأسئلة العربية الراهنة إشكالية، وهو المتعلّق بالثورة كبُينة ومفهوم في سياقاتها التاريخية المختلفة. وتاليًا، نحن إزاء كتاب لا مجال للشكّ في أهميته كمدخل ضروري لفهم الثورة.

لامس كتاب "في الثورة والقابلية للثورة" واحدًا من أكثر الأسئلة العربية الراهنة إشكالية، وهو المتعلّق بالثورة كبُنية ومفهوم في سياقاتها التاريخية المختلفة

يضعنا عزمي بشارة أمام سؤال ما إذا كان في الإمكان تحديد مفهوم الثورة علميًا. وبناءً عليه، أي السؤال، ينطلق الكتاب بإعادة مفردة الثورة إلى التاريخ الإسلاميّ، مُشيرًا إلى أنّ المؤرّخين العرب لم يستخدموا هذه المفردة، واستُبدلت عندهم بمفردات أخرى من قبيل الخروج والفتنة. ويفسّر عزمي بشارة هذا الأمر بالقول إنّه يعود إلى المفهوم الإسلاميّ المتعلّق بوحدة الجماعة واستقرارها. وبحسب رأيه، فإنّ المفردة الأقرب إلى مفهوم الثورة المعاصرة هي "الخروج"، والخروج هنا بمعنى الخروج إلى الناس طلبًا للحق، وهو أوّلًا، كما يراه عزمي بشارة، "خروج من المنزل إلى الشارع أو الميدان. وهذا يعني مغادرة الصبر والشكوى والتذمّر وحالة عدم الرضى في الحيّز الخاص، وحملها إلى الحيز العام" (ص17). وثانيًا "الخروج على قواعد اللعبة وعلى القوانين السارية، وعلى الشرعية القائمة" (ص18). وبذلك، يكون ما ذكُر هو المشترك بين الخروج بالمعنى المستخدم في التاريخ الإسلاميّ، والثورة بمعناها الحديث.

اقرأ/ي أيضًا: جمعية دراسات الشرق الأوسط تشجب افتراء "فرانس برس" ضد عزمي بشارة

وباعتبار أنّ الخروج يستهدف وحدة واستقرار الجماعة الإسلامية، ويسعى إلى تقويضها عبر إثارته للفتنه، كان الخروج على السلطان محرّمًا. ولكن ما يلفت النظر هنا أنّ الخروج نفسه كان يُبرر ويُشرعن عندما يصير نظامًا قائمًا، أي عندما يتغلّب على السلطان الذي خرج عليه، وبات أمرًا واقعًا على أنقاضه. وتاليًا، يُحرّم الخروج على السلطان الجديد بعد أن اكتسب شرعيته بالغلبة التي صارت إجماعًا، ويصير مبررًا في حال الغلبة التي تجعل ما كان محرّمًا يصير حلالًا، وذلك في ظل غياب المعايير الأخلاقية والمبادئ في الفتاوى والأحكام الدينية.

يشير عزمي بشارة إلى أنّ لـ ابن تيمية رأي يجيز الخروج على أي حاكم يخرج عن الشريعة الإسلامية، على أن يلتزم الخروج نفسه هذه الشريعة ولا يخرج عنها. ولكنّ ابن تيمية نفسه كان يُبرر الخروج على أي حاكم عادل وملتزم بالشريعة حين يصير الخروج، كما ذكرنا أعلاه، نظامًا قائمًا بفعل الغلبة.

وفي العودة إلى مفردة "ثورة"، نجد أنّها تعني بمفهومها المعاصر، وكما عرّفها المفكّر عزمي بشارة، تحركًا شعبيًا واسعًا يهدف إلى تغيير شرعية سياسية قائمة لا يعترف بها، واستبدالها بشرعية جديدة. وبذلك، يُميّز هذا التعريف الثورة عن الانقلاب العسكري، ذلك أنّ الأخير لا يضع قلب نظام الحكم واستبداله بآخر جديد هدفًا له كما هو الحال في الثورة، إنّما يكتفي بتغيير الحاكم. هكذا، وبناءً على ما سبق، نجد أنّ ما يُميّز الثورة الحديثة عن الحركات الاحتجاجية والانتفاضات على أنواعها هو حرصها على التجديد.

اللافت أنّ مفردة "انقلاب" بمعنى تغيير، هي الأقرب إلى مفهوم الثورة المستخدم في عصرنا، ذلك أنّ هذه المفردة التي استخدمها الأتراك والفرس معًا، تُعبّر عن الثورة التي تضع التغيير الجذري هدفًا لها. ويفسّر عزمي بشارة الأمر بقوله إن استخدام مفردة "انقلاب" بدلًا من "ثورة" جاء باعتبار أنّ الأولى حملت معنى التغيير السياسيّ آنذاك، في حين أنّ مفردة ثورة كانت تعني حالة من الهيجان والغضب ضدّ الظلم غالبًا. وما وضع مفردة انقلاب كمفهوم سلبي في اللغة العربية الحديثة بحسب عزمي بشارة هو أنّها استخدمت بمعناها الجزئي، لتصير مقتصرة على الانقلاب العسكري وحسب، والذي انتشر في النصف الثاني من القرن العشرين.

يشير عزمي بشارة إلى أنّ ارتباط الثورة بالجدّة والانقطاع بمسار التطوّر التاريخيّ من بين ما يميّز الثورات الحديثة

ولأن الثورة بمفهومها الحديث تعني التغيير الجذري لبنية النظام، فإنّها تعتبر أنّ الإصلاح غير ممكن في إطار النظام القائم، ذلك أن الإصلاح هنا لا يحقق هدف الثورة المتمثّل في استبدال النظام بأخر جديد. غير أنّه من الممكن أن تقبل الثورة بإصلاح ما شرط أن يكون إصلاحًا جديدًا تمام الجدّة. وهذا ما يُعتبر عند الثوريون الراديكاليون خيانة للثورة، ذلك أنّ الثورة في هذه الحالة، كما يرونها، تكون غير مكتملة أو حقيقية إن اكتفت بإصلاح النظام دون تغييره.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب عزمي بشارة عن الطائفية.. تأصيل فريد في مختبر تاريخي حيّ

وتاليًا، تكون الثورة هنا، وكما يراها عزمي بشارة صاحب "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيّلة"، بعيدة عن كلمة "Revolution"، لأنّ الأخيرة تعبّر عن الثورة التي تعني تغيير الأنظمة ضمن دورة متكرّرة لا تقدّم جديدًا، أي أنّها تعود دائمًا إلى حيث انطلقت. بينما تنهض الثورة الحديثة على الجدّة والتجديد.

يشير بشارة في هذا السياق إلى أنّ ارتباط الثورة بالجدّة والانقطاع بمسار التطوّر التاريخيّ هو ما يميّز الثورات الحديثة. وبناءً على ذلك، لا تكون الثورات الحديثة معنية فقط بتغيير الحكومات وقلب الأنظمة، ذلك أنّ لها بعدًا اجتماعيًا متعلّقًا بنشوء نظام اقتصادي جديد. وتاليًا، يصير من غير الصحيح استخدام كلمة ثورة في حال لم يحدث هذا التغيير في النظام الاجتماعي.

وبما أنّ المقصود بالثورة الحديثة هو القفزة النوعية من نظام اجتماعي إلى آخر، يقول إنّ مفردة الثورة ومفهومها المعاصر يصحّ أيضًا على الثورتين العلمية والصناعية. ويشير صاحب "الجيش والسياسة" إلى التشابه الحاصل في استخدام كلمة ثورة في عبارتي ثورة علمية وثورة سياسية. ويتمثّل هذا التشابه أوّلًا في أنّ كلتا الثورتين تكون على قناعة بأنّ المؤسّسات السياسية أو العلمية لم تعد قادرةً على مواجهة المشكلات والقضايا المتولّدة عن البنى السياسية، وهي القضايا التي قادت إليها هذه المؤسسات. وثانيًا، رفض كلتا الثورتين للتبريرات التي تقدّمها النماذج القديمة دفاعًا عن نفسها، علمية في حالة الثورة العلمية، ودستورية في حالة الثورة السياسية.

في الثورة والقابلية للثورة

كانت مفردة "الحرية" تستخدم، حتّى قيام الثورة الفرنسية، مصطلحًا يقف على النقيض من الرق والعبودية. ولكنّ مفهومها هذا تغيّر بعد أن حدّدت الليبرالية الإنجليزية سلطة الملك، وأنهت الثورة الفرنسية امتيازات سلطته. ليضعنا هذين الحدثين إزاء معنى جديد لهذه المفردة، وهو معنى سياسيّ يتضمّن بعدين، الأوّل هو البعد النافي للقيود التي تكبّل ما يسمّى الحريات؛ فتصبح الحرية بالمعنى السالب مجموعة من الحريات "Liberties". ثم بُعد أن تشمل الحرية مشاركة المواطن في تقرير مصيره عبر المشاركة في إدارة شؤون الوطن "Freedom، Free citizen" (ص53).

وبناءً على ما سبق، يكون أي نظام ديمقراطيّ مؤلّفًا من الحريات المدنية التي تضمن للمواطن التحرر من تدخل الدولة في شؤون محدّدة لا يجوز لها أن تتدخّل فيها. وثانيًا، من الحقوق المواطنية السياسية التي تقوم ببناء الحرية في الدولة من خلال المؤسّسات التي تضمن ممارستها.

والحرية هنا والتوق إلى تحقيقها، بحسب عزمي بشارة، تُضاف إلى ما يُميّز الثورات الحديثة، مُفسّرًا الأمر بأنّه يمكننا الحديث عن ثورات أخفقت في بناء الديمقراطية، ولكنّ الحديث عن ثورات لا تتوق إلى التحرر غير ممكنًا. والثورة في سبيل الحرية لا تضمن دائمًا بناء الديمقراطية، ذلك أن بناءها "عملية معقّدة من الموازنة بين العام والخاص، والرقابة على السلطات، وتنظيم عملية مشاركة المواطنين بالاقتراع وقبله وبعده، وضمان ألّا تكون الأغلبية أغلبية هويّة ثابتة، بل أغلبية رأي ومصالح، وألّا تعتبر الأقليات على مستوى الهويّة أقلّياتٍ سياسية مؤبّدة كأقليات، وضمان أن تتضمن حلولًا وسطًا وغيرها" (ص55).

تتميّز الثورة الحديثة عن التمرد والعصيان والانتفاضة بأنّها إن حصلت لن تتوقّف إلى أن تحقّق هدفها. وبناءً على ذلك، تفقد أي ثورة تفشل في الوصول إلى هدفها تسمية "ثورة". ويُسمّى التمرّد أو الانتفاضة "ثورة" إن اقتربت من تحقيق هدفها.

وللثورة أيضًا حالات معيّنة تؤدّي إليها، ويطلق عليها تسمية "الحالة الثورية" التي تؤدّي إلى تحرّك الشعب وتجعل منه "ثورة" تستهدف مجمل النظام السياسيّ. ويستعرض صاحب كتاب "أن تكون عربيًا في أيامنا" هنا أهم عناصر الحالة الثورية التي حدّدها لينين، وهي رفض الناس للعيش بالطريقة القديمة، وتزايد معاناة الطبقات المضطّهدة بشكل استثنائي، ونشاط هذه الطبقات نتيجة ممارسات الطبقة المُضطَّهِدة. وهنا يقول إنّ المكوّن الأوّل للحالة الثورية يكفي لنشوء الحاجة إلى الإصلاح. ولكنّ الحالة الثورية التي تخلق الثورة تحتاج إلى عاملين من العوامل الثلاثة على الأقل. وتاليًا، تكون القابلية للثورة هنا هي الوعي بأنّ المعاناة ليست حالة طبيعية معطاة، ما يعني أنّها حالة من الظلم. ويرى عزمي بشارة أنّ العفوية في الثورة تصب في مصلحتها عندما تكون الأوضاع ناضجة لنجاح الثورة. ولكن عندما تنتشر الثورة دون أخذ المعطيات بعين الاعتبار، تنعكس العفوية سلبًا على الثورة، وتقودها غالبًا إلى نهايتها.

وفي حال نهضت الثورة على برنامج قائم مسبقًا على أيديولوجية سياسية وفكرية معلنة، تفقد هنا تسميتها بـ"الثورة الشعبية". وقلّما تنجح هذه الثورات في الوصول إلى هدفها، ذلك أنّها تفشل في توحيد صفوف الشعب حولها، وتكون نتيجتها في حال تحقيقها لأهدافها استبدال الاستبداد القديم بآخر جديد.

بحسب عزمي بشارة، إن غياب التخطيط والبرنامج السياسي يؤدّي، في حالة تفكّك النظام الحاكم، إلى تصدّر قوى مجتمعية غير مسيسة للحياة السياسية

اقرأ/ي أيضًا: انشغال عزمي بشارة بـ"المسألة العربية".. ما بعد قشور الراهن العربي

يشير عزمي بشارة إلى أنّ الثورات العربية لم تكن مُقادة من الأحزاب السياسية القائمة. ولكنّ هذا بعد ليس شرطًا كافيًا، بحسب بشارة، لتحقيق الديمقراطية. مُفسّرًا الأمر بأنّ غياب التخطيط والبرنامج السياسي ربّما يؤدّي، في حالة تفكّك النظام الحاكم، إلى تصدّر قوى مجتمعية غير مسيسة للحياة السياسية، ما يؤدّي بطبيعة الحال إلى حدوث انشقاقات وشروخ كبيرة في الدولة والمجتمع. ولذلك، يرى بشارة أنّه لا بدّ من وجود خطة تقف عليها القوى السياسية الممكنة لضبط عملية التحوّل الديمقراطي وتوجيهها. ذلك أنّ الثورة الديمقراطية لا تصل إلى هدفها مباشرة، بل عبر عملية تحوّل ديمقراطي بغض النظر عن طول فترة التحوّل هذه. ويؤكّد هنا على ضرورة أن تكون عملية التحوّل مدروسة ومنظمّة ومجمعًا عليها، وإلّا فإنّها قد تقود إلى كارثة.

ختامًا، يؤكّد عزمي بشارة أنّ الحكم على أساس مبدأ المواطنة كمنظم للعلاقة بين الدولة وسكّانها، هو ما يجعل الدولة مدنية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة.. الحفر في الثورة المصرية (1- 2)

عزمي بشارة: كل فلسطين قدس