13-مايو-2020

إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920

الثقافة قراءة سياسية بالدرجة الأولى، أو السياسة قراءة ثقافية بالدرجة الأولى، المقولتان السابقتان تحددان أهمية الثقافة في رسم المشهد السياسي والاجتماعي للمجتمعات والبلاد والعباد، كما تحددان تداخل الثقافة مع السياسية في وحدة يستحيل فيها فصلهما عن بعضهما البعض، فالثقافة طرف في الصراع القائم، وهي محكومة بشروط الصراع، كما تتحكم بمفاصل هذا الصراع وتحدده، فأي ثقافة وطنية نريد في لبنان؟

أزمة الثقافة السياسية

الصورة صورة تاريخية من الطراز الأول، والواقعة واقعة تاريخية من الطراز الأول في تاريخ لبنان، إنها صورة مكثفة في رمزيتها وواقعيتها تلتقط لحظة تاريخية، وأما الحدث المجسد داخل إطار الصورة فهو إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 من جانب الجنرال هنري غورو المندوب الفرنسي الحاكم في لبنان، ويحيط به من اليمين البطرك الماروني أنطوان عريضة، ومن اليسار مفتي المسلمين الشيخ مصطفى نجا وعدد من مشايخ الدروز.

سيقول خمسة مليون لبناني بأنهم يمقتون الطائفية، إن كان كل هؤلاء من شعب لبنان غير طائفيين فمن أين تأتي الطائفية؟

تظهر أركان الثقافة السياسية في لبنان عبر الصورة التأسيسية للبنان الطائفي ولكل حرب أهلية لاحقة، ولا زال اللبنانيون يدفعون ثمن هذه الثقافة التأسيسية حتى اليوم. إنها صورة ثقافية بالغة الدلالة، فمنذ نشوء دولة لبنان الكبير لعبت الثقافة الدينية دورًا حاسمًا في تشكيل هوية لبنان حيث تأسس التناقض في هذه اللحظة بالذات وانسحب على الحقبات المتتالية في لبنان، وكان من نتيجته الحروب الأهلية في لبنان في الأعوام المتلاحقة، تلك التناقضات الإيدولوجية التي تعود جذورها إلى تصورات كل من المسلمين والمسيحيين عن لبنان، يضاف إليها صراعات متعددة في طليعتها الطبقية والقومية وغيرها من الأسباب والعوامل الخارجية.

أجيال مشوهة

دامت الحرب الأهلية الاخيرة في لبنان 15 سنة شوهت خلالها الأجيال الماضية، أجيال أهلنا، ونقلت جزءًا من هذه التشوهات إلى الأجيال التالية، أي جيل التسعينيات، الجيل الذي تحمل تبعات الحرب الأهلية، البعض من هذا الجيل كان يتيمًا خسر والديه أو أحدهما في الحرب، أو تعرض أحد أفراد أسرته وأقاربه للخطف، أو عاش وسط بيئة حزبية متعصبة، أو اختبر السلاح والعنف والدمار حتى صار أمرًا اعتياديًا، أو أجبر على الهجرة والنزوح وغيرها من المآسي.

 خرج الشعب اللبناني من الحرب بخلاصة؛ النظام الطائفي هو المرض، ولأجل ذلك، وبعد اكتشاف المرض، يجب البحث عن الدواء، وهكذا اتفق أطراف الحرب أن الدواء هو إلغاء الطائفية السياسية، لكن أمراء الحرب الأهلية لم يطبقوا أي شيء! "دق الماي بتبقى ماي" زادت الطائفية.

تقسيم طائفي

وصارت كل طائفة تبني دولتها التي تتدخل في وجود الإنسان من لحظة ولادته حتى لحظة مماته ودفنه وما بينهما، حتى الأرض تم تقسيمها جغرافيًا، وتمت قسمة الشعب ديمغرافيًا، تم تقسيم اللبنانيين في المدارس والجامعات والمؤسسات المختلفة وفي الوظائف وداخل الجيش والقوى الأمنية، كل شيء بات إجباريًا أن يمر من خلال المحاصصة الطائفية، وحتى أحكام الإعدام في لبنان صار لزامًا أن تتبع قاعدة 6 و6 مكرر.

اقرأ/ي أيضًا:  فلسطين على مقصلة عنصريات لبنان المتراكمة

فبمجرد ذكر أي منطقة من مناطق لبنان يمكن التكهن ببساطة طبيعة الطائفة التي ينتمي إليها سكان هذه المنطقة، فمثلًا منطقة الأشرفية تحيل مباشرة إلى أنها منطقة ذات غالبية مسيحية، والضاحية الجنوبية المعادل الذهني لها مباشرة هم الشيعة، وطرابلس تحيل إلى السنة، والشوف إلى الدروز.

أصبح لبنان عبارة عن كانتونات، كومباوندات طائفية تشبه الجزر، هذه الكانتونات موصولة ببعضها البعض بواسطة الطرق، لكن حدودها الفعلية مرسومة في الفكر الطائفي بين كل جزيرة وجزيرة، حيث أن المواطن اللبناني مباشرة عند وصوله إلى مدخل أي كومباوند، يشعر ويحس ويعي إن كان هو بنفسه جسمًا غريبًا عن هذه المنطقة أو جسمًا قريبًا منها.

تم تقسيم كل شيء في لبنان لخدمة الطوائف حتى فقد لبنان ركيزة أساسية هي "التفاعل السيكولوجي بين أبناء الوطن"، والذي ينتج عنه ثقافة وطنية للجماعة وللأمة، باتت هذه الثقافة في حكم الغائبة وتم استبدالها بثقافة طائفية في كل مجالات الحياة، قانون طائفي للأحوال الشخصية، قانون انتخابي وفق المعيار الطائفي إلخ..

تقسيم طبقي

منذ انتفاضة ١٧ تشرين، كل يوم يمر في حياة اللبنانيين هو بمثابة هدر وهو حق مسلوب من قبل هذه السلطة الطائفية مفتعلة الحرب الأهلية، وهذه الطبقة الأكثر غنى المسيطرة على مقدرات البلد، كل هذا الوقت والجهد والتعب الذي قضاه اللبنانيون في الشوارع يصرخون مطالبين بحقوقهم، هي حق مسلوب من قبل الطبقات الحاكمة في لبنان.

حياة اللبنانيين المتوقفة عن العمل في شتى المجالات العلمية والعملية والترفيهية والثقافية والإقتصادية والإنتاجية، مسؤول عنها بالدرجة الأولى المصارف وحاكمية مصرف لبنان وأحزاب السلطة، ممن ركبوا انتخابات نيابية وحكومات متعاقبة وقوانين انتخابية طائفية مفصلة على قياسهم، واحتكروا وصادروا العملية الديمقراطية برمتها في لبنان.

الآن، هذه الطبقة سرقت أحلام اللبنانيين وتعبهم وقوة عملهم وعرق جبينهم، وهي المسؤولة عن تحطيم معنويات الشباب اللبناني وهجرته إلى الخارج ويأسه وقلة إيمانه بوطنه، هؤلاء، أي الطبقة الأقلية الحاكمة في المال والسياسة استبدلوا التفاؤل بالتشاؤم والفرح بالكآبة.

اقرأ/ي أيضًا: حزب الله وحاكم المصرف... شروط التحالف وموجباته

أعداد البطالة في لبنان في تزايد مستمر، والكثيرون فقدوا رواتبهم مما أدى إلى تراكم الشعور بالقلق والاكتئاب، اللبنانيون يفقدون شقى أعمارهم بسبب المصارف، الرواتب والأجور مُسحت تحت وطأة تدني القيمة الشرائية للمواطن، فيما تحبس المصارف ودائع اللبنانيين وتعويضات نهاية الخدمة وغيرها، ذل ما بعده ذل.

اليوم، اللبنانيون يتعرضون للنهب المادي (حرفياً) وللإرهاب المعنوي والجسدي والنفسي والعاطفي من قبل هذا السيستم الطبقي والطائفي، وليكن معلومًا أن هذه التقسيمات الطائفية والطبقية في لبنان إنما تستمد مشروعيتها من بعضها البعض، سقوط أحدها سيؤدي حتمًا إلى سقوط الأخرى، لكن هناك أولوية في الصراع تتجلى في ضرب المنظومة الطائفية كي يسهل بعدها ضرب المنظومة الطبقية، المنظومة الطبقية التي تتلطى وتحتمي بالمنظومة الطائفية الأشد تعصبًا وغرائزية.

الثقافة المعيوشة

الشخص الطائفي لا يعترف بأنه شخص طائفي، إما لأنه لا يدرك بأنه شخص طائفي، وإما لأنه يخجل بطائفيته، قليل جداً من يمكنه من اللبنانيين الاعتراف بطائفيته بشكل صريح، فغالباً ما تكون الإجابات عند اللبنانيين على شاكلة "عندي رفقة من كل الأديان"، ثم يبدأ هذا اللبناني بتعداد أسماء أصدقاءه من الطوائف الأخرى.

لكن، يخبرنا تحليل مبسط لهذا الفكر، أن التسمية تحيل إلى فكرة بطبيعة الحال، والاسم يحيل إلى طائفة كذلك، إذاً فالتسميات في أساسها طائفي، لأنها تستند إلى مرجعيات ذهنية مسبقة وجاهزة في الفكر، هل سمع أحد منا في يوم من الأيام شخصًا يعبر عن طائفيته بشكل صريح؟ هل صادف وشاهدنا أحدهم يعترف بذلك على وسائل التواصل الإجتماعي؟ في الميديا؟ بالتأكيد لا، أو بنسبة قليلة.

لماذا؟ لأن المواطن في لبنان بات يعيش في تناقضات بين ما يريده وبين ما هو مفروض عليه بفعل الثقافة الحالية، إنه يريد التحرر من هذا النظام لكنه وبفعل ترسبات المجتمع والبيئة والمحيط والثقافة نجده ينغمس ويندمج في طائفته، المواطن اللبناني صار دائم الخوف من الأخر، هكذا زرع في وعيه أن طائفته هي المخولة حمايته وبذلك ضربت الثقافة الوطنية الجامعة، حتى صار شعار العيش المشترك شعارًا مضحكًا وفارغًا ترفعه منظمات المجتمع المدني ليس إلا.

فحين يقول شخص مسيحي مبررًا لاطائفيته "عندي أصدقاء في منطقة الضاحية الجنوبية واسمهم علي ومحمد"، فهو من حيث لا يدري إنما يحكي خطابًا طائفيًا، لأن إجاباته ناتجة عن تصورات ثنائية مزروعة في طريقة تفكيره (الأنا والأخر)، هناك الأنا وهناك الأخر دومًا، وعلى هذا المنوال، وبميكانيزمات دفاعية عديدة، يلجأ الطائفيون إلى تمويه وتغليف خطابهم الطائفي أو نكرانه.

الشخص الطائفي لا يعي أنه شخص طائفي، أو يعي ذلك لكنه يستر طائفيته الدفينة، إذا قمنا بإجراء استفتاء حول الطائفية، سيجيب خمسة مليون لبناني بأنهم يمقتون الطائفية، وسيكون شيء مثير للغرابة، إن كان كل هؤلاء من شعب لبنان غير طائفيين فمن أين تأتي الطائفية؟!، فكيف يمكن لشخص صادق وضع جبراً في سياق طائفي، أن يكون فعلًا وقولًا شخصًا غير طائفي؟ السياق العام يفرض نفسه على الأفراد.

لبنان تأسس ولا زال يرزح تحت نظام حكم الطوائف بدل نظام حكم الشعب، هذه الثقافة هي ثقافة القبور، فمتى سننتقل ونتطور من ثقافة القبر إلى ثقافة العقل؟ في كتابه "نافذة على المستقبل" يعتبر الرئيس سليم الحص أن "كل الطوائف في لبنان أقليات، والنظام الأمثل للبنان هو النظام الديمقراطي القائم على الحرية وعلى العدالة الاجتماعية"، ويدعو إلى إلغاء الطائفية لأنها ضد الحرية والمساواة بين المواطنين، وهذه يجب أن تكون معركتنا اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: 

لقاء بعبدا.. تعويم الجنرال تحت عباءة نيوليبرالية حزب الله

مركزية في اللامركزية.. تاريخ لبنان وحاضر الانتفاضة