17-يناير-2016

أجيم سولج/ إيطاليا

واحد من أكثر التعابير شيوعًا خلال الثورة السورية هو تعبير: الانفصال عن الواقع، وهو يعني أن يعيش المنفصل عن الواقع داخل أفكاره التي لا تنفك عن التوالد، الأمر الذي يوهمه، بعد فترة، أنها هي الواقع. ذلك يبدو أشبه بمرض نفسي ينشأ نتيجة رفض حقائق معينة، ويتفاقم إلى درجة تحل معها الأفكار محل هذه الحقائق، وينخدع صاحبها أن لا واقع خارج أفكاره، ثم يتم التعامل مع الأفكار على أنه تعامل مع الواقع، وهكذا..

انفصل المثقفون العرب عن الواقع، وناقشوا أفكارًا وكتبوا فيها وحولها، إلى الدرجة التي حلت فيها تلك الأفكار محل الواقع

ولئن تم إطلاق هذا التعبير بداية على النظام السوري في تعامله مع شعبه الذي ثار عليه، إلا أن له، كما يبدو، جذورًا ثقافية. ذلك أن ثقافة العرب والمنطقة منذ حركات الاستقلال منتصف القرن العشرين، ذلك الذي أطلق عليها ثقافة الحداثة، بدت منفصلة عن الواقع، وتدور داخل نفسها، تصغي لـ/وتحاور نفسها كأن لا شيء خارجها، كأن لا واقع تعيش فيه، وتتأثر وتؤثر بحركته.

مع بداية التفلسف العربي الإسلامي قام المفكرون بترجمة وشرح الفلسفة اليونانية، وكان هذا، حينها، عملًا عظيمًا أنتج فيما بعد فلاسفة عرب مسلمون ومسلمون غير عرب إلا أنهم كتبوا باللغة العربية بوصفها لغة كتابهم المقدس من جهة، وبوصف العرب قوة صاعدة في العالم من حيث أنهم لم يعودوا متلقين فقط للأفكار، بل منتجين لها، إذ كان لديهم الكثير ليقولوه للعالم. دخل هؤلاء الفكر والفلسفة من البوابة نفسها: بوابة الفكر والفلسفة. أي مروا بمرحلتين: مرحلة الاطلاع على فكر الآخر (اليوناني) عبر ترجمته، ومرحلة إنتاج الأفكار. المرحلة الثانية تمثلت بالانطلاق من واقعهم آنذاك والكشف عن تعرجاته وطبقاته وآفاقه وطموحه، ثم التأثير فيه، وقد نتج عن ذلك كله ما سمي في التاريخ: الثقافة العربية الإسلامية.

في العصر الحديث لم يعد مقبولًا المرور في تلك المرحلتين نظرًا للتغيرات الكونية في التواصل بين الشعوب والثقافات وسرعة الترجمة وانتشارها، الأمر الذي مكننا، في منطقتنا مثلًا، أن نقرأ تيارًا فلسفيًا قبل انتشاره في بلده، ربما!

لكن المشلكة الكبرى أن المفكرين والكتاب العرب في ثقافة الحداثة انفصلوا عن الواقع دون عناء، وناقشوا أفكارًا وكتبوا فيها وحولها، إلى الدرجة التي حلت فيها تلك الأفكار محل الواقع، وبدت أنها هي الواقع فعليًا. الأمر الذي يعني أيضًا أن الثقافة العربية الحديثة مصابة بذلك المرض النفسي ذاته الذي يصيب الأفراد: التوهم أن لا واقع خارج أفكارها. إذًا الثقافة أيضًا تصاب بالأمراض.

لم يبق لدينا من ثقافة ممكن الانحياز لها سوى الثقافة التي لا يمكن مناقشتها أصلًا: ثقافة التسليم

حتى عندما كتبوا في (الواقع) فإنهم ذكروه جميعًا ضمن وصفة واحدة محددة صرنا نعرفها جميعًا، وضمن كلام عام قطعي لايعطي أية إمكانية للتفكير، أو التغيير، أو الحلم بالتغيير، أو محاولة ذلك... فلقد قالوا فيه جميعًا إنه واقع متردٍّ، متخلف... 

وعن أسباب ترديه وتخلفه قالوا: الاستعمار القديم والجديد والإمبريالية والرجعية. عدا ذلك فإن كتبهم، لو راجعناها بسرعة، تنطوي على أفكار مجردة، تجري في الكتب لا على الأرض، وتنطوي على مواقف بالفعل، لكنها مواقف من أفكار لا نعرف مدى اقترابها من الواقع، ولا مدى ابتعادها عنه، فهي لم تخضع لأي اختبار، ولم تناقش أي حدث، بل ناقشت نفسها واتخذت مواقف من نفسها، وهكذا... فيما بقي الواقع يجري بمشيئة الله والأنظمة السياسية التي طحنته.

وهكذا وصلنا إلى المرحلة التي لم يبق لدينا فيها من ثقافة ممكن الانحياز لها، أو الإيمان بها، أو مراجعتها، أو الاعتماد عليها في بلاوينا وتطلعاتنا سوى الثقافة التي لا يمكن مناقشتها أصلًا: ثقافة التسليم، (الثقافة) الدينية إذًا. 

اقرأ/ي أيضَا:

إعادة تعريف سوريا

الثقافة المعقّمة والتطهّريّة