14-مايو-2017

عمل فني لـ باسكال هاشم/ لبنان

من الإشكاليات البارزة التي شغلت الفكر العربي الحديث منذ ستينات القرن الماضي، تلك العلاقة المعقّدة بين الثقافي والسياسي والتي تفاقم الجدال حولها، بقدر ما كانت الأوضاع السياسية في العالم العربي تنغلق داخل سلطوية استبدادية. من هنا ظهر للكثيرين، خصوصًا الأدباء والفنانين، أن ازدهار الإبداع والثقافة رهين بوضع حدّ لوصاية السياسة على الفن والثقافة لأن مجالهما ومنطقهما مختلفان. لكن يبدو أن المسألة أكثر تعقيدًا وتستدعى تحليلًا متأنيًا لتجلية الجدلية القائمة بين "الثقافي" و"السياسي" حسب الاصطلاح الحديث.

من الطبيعي ألا تكون علاقة الثقافي بالسياسي علاقة تطابق واتفاق

ويُقصد بالثقافي، المستوى الذي يتخذ من الثقافة موضعًا للتفكير في تجلياتها وأبعادها والقيم المنطوية عليها، أي الرحم التي تتشكّل داخلها مفاهيم الثقافة وقيمتها المستمدة من الحياة المعيشة والتراث المكنونة للمتخيّل الجماعي. ويُقصد بالسياسي، الجانب الذي يعلو على السياسة في مفهومها اليومي، التدبيري، الاحترافي، ليحدد الفكر السياسي وراء التصوّر المتصل بعمق السياسة، أي إعادة توزيع السلطة والثروة وتنظيم تداول الحكم.

اقرأ/ي أيضًا: الشرق الأوسط: مأساة العرب

من هذا المنظور، تكون هناك بالضرورة جدلية بين الثقافي والسياسي، باعتبار أن حياة المجتمع وتحولاته تستندان إلى التفاعل بين قيم الثقافة وأهداف السياسة لتحقيق التكامل، وتحقيق علاقة النقد والمراجعة وإعادة النظر. ومن الطبيعي ألا تكون علاقة الثقافي بالسياسي علاقة تطابق واتفاق، لان الأول يهتم بالامادي والمزي، بالموروث والمكتسب، بالذاكرة وبما تبتدعه المواهب في الحاضر؛ بينما يهتم الثاني بمجال الفعل والإنجاز في سياق تتعارض فيه المصالح ومواقف الفاعلين في الحقل السياسي، أي أن ما قد تبرّره الظرفية هنا لا ترضيه منظومة القيم والمبادئ على المدى البعيد.

حين نستحضر مسار الثقافة والسياسة في المجتمعات العربية، على امتداد مئة سنة ماضية وبطريقة خطّية إجمالية، سنجد أن علاقة الثقافي بالسياسي عرفت أكثر من وجهٍ وتحقُّق نتيجة للشروط التاريخية ودرجة الوعي لدى المجتمع السياسي (الدولة) ولدى المجتمع المدني. ففي فترات استعمار الأقطار العربية، كان الثقافي يضطلع باستجلاء أفق القيم التنويرية في التراث والحضارة الحديثة على السواء، ويسعى إلى التوفيق بينها على نحو يحقق التوازن، ويوفّر إمكانات الانخراط في العصر؛ وفي الآن نفسه كان يدعم السياسي ويرعى خطواته على طريق النضال من أجل استعادة السيادة والحرية وبناء مجتمع يقطع مع التأخر والماضوية. 

من هنا، جاز القول إن علاقة الثقافي بالسياسي في فترة الكفاح من أجل الاستقلال كانت علاقة جدلية إيجابية، لأنها أنتجت وبلورت ما يسميه السوسيولوجيون والباحثون في الفكر السياسي بـ"المتخيَّل الوطني"، أي مجموع القيم والأساطير المؤسسة التي تسكن مخيلة شعب ما، وتشكِّل مرجعية تحظى بما يشبه الإجماع. في تلك الفترة، فعلًا، نجد ان المتخيل الوطني كان يتوفّر على نوع من التناغم بين الثقافي والسياسي، حيث كان "الإحياء" في الأدب والشعر، والسلفية المتفتحة في الفكر الديني (جمال الدين الأفغاني، محمد عبده) ونماذج أخرى من البطولات الشعبية الوطنية (سعد زغلول، عمر المختار، عبد القادر الجزائري، عبد الكريم الخطابي..) وكل تلك التجليات كانت بمثابة لُحمة تدعم الكفاح وتحقق الأهداف الوطنية.

من الآمال المعلقة على الثورات العربية، إعادة الاعتبار والدينامية للعلاقة الجدلية بين الثقافي والسياسي

لكن مرحلة "ما بعد الاستقلال" عرفت بداية شرخ وتصدُّع بين الثقافي والسياسي، لأن مسار الدولة الوطنية لم يستجب لتطلعات المجتمعات العربية إلى التحرّر والديمقراطية، وأخذ ينحرف عن المقاصد الجماعية ليستقرّ في قوقعة التسلّط والاستبداد. بعبارة أخرى، تعطّلت العلاقة الجدلية بين الثقافي والسياسي نتيجة لهذا الانحراف، فلم تعد السياسة العربية تستوحي الفكر السياسي ومبادئه الكبرى، ولا القيم المتحدّرة من الثقافي وإنتاجاته المتعددة. وما يستحق التسجيل، ولو سريعًا، هو أن الثقافي استمرّ، على رغم انحراف السياسة، في صوغ الأسئلة وانتقاد السلطوية والحكم المطلق والتأشير على طريق المستقبل وإبداع أعمال فنية وأدبية "تقاوم" على طريقتها، وضمن المقاييس الفنية مسار التردّي والانحدار.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. أين ذهبت الطبقة الوسطى؟

أخيرًا، هل يمكن القول، على ضوء الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر وسوريا واليمن والمغرب وبقية الأقطار العربية، إن من الآمال المعلَّقة على هذه الحركات الشابة التصحيحية، إعادة الاعتبار والدينامية للعلاقة الجدلية بين الثقافي والسياسي، أي أن تستعيد الثقافة والفكر السياسي حقهما وسلطتهما في انتقاد الممارسات الثقافية والسياسية التي تريد أن تفرغ الثقافة والإبداع من شعلتهما المخلخلة للمنوالية والاتّباع، أو التي تريد للسياسة أن تكون مجالًا للإقطاع والاستغلال والاستعباد والمتاجرة.. ذلك أن عمق كل ثورة تستحق اسمها إنما يتجلّى، قبل كل شيء، في إذكاء جدلية الثقافي والسياسي لضمان استمرار النقد والمساءلة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

المؤسسات الثقافية في الجزائر كأداة لخدمة النظام

هستيريا سوريّة... لغة ممولة بالرصاص