03-يوليو-2016

في أحد شوارع العاصة الجزائر (Getty)

لعلّ الجزائر من الدول القليلة في العالم التي يستطيع أن يصبح فيها أيُّ مدّعٍ كاتبًا أو صحفيًا أو فنانًا أو أستاذًا جامعيًا، من غير أن يجد من يقول له: من أنت؟ في ظل سياقاتٍ موضوعية أدّت إلى استقالة المنظومات المعنية بوضع سلّم صارم للمعايير التي تفرز السمين من الغثّ، وتضع الألقاب والمناصب والجوائز في نصابها.

هذا الواقع الثقافي المنخور بمنطق المصلحة والمجاملة والشللية والابتذال، هو قياس على الواقع السياسي الذي بتنا نجد فيه وجوهًا لا تصلح لتسيير أسرها، ويُفترض أنه يُحجر عليها في ذلك، تسيّرُ وزاراتٍ وإداراتٍ وحكوماتٍ وهيئاتٍ ومراكزَ ولجانًا برلمانية، يدخل دورها في صميم الأمن القومي للبلاد.

ألم تكفنا خمسون سنة من الاستقلال، لأن نضبط معاييرَ صارمة تقينا من تسلل الجهلة والمغشوشين والرديئين إلى منابرنا الأدبية والثقافية والفنية والإعلامية؟!

كنت في القطار، فتقدّم مني شاب مقدّمًا نفسه على أنه شاعر، فرِحْتُ به، وطلبت منه أن يقرأ عليّ شيئًا ممّا كتب، وليتني لم أفعل، لأنّ ما سمعته منه حوّل القطار الأنيق والمكيّف إلى غارٍ رطب وخانق، لقد كان موغلًا في الرّداءة، كأنه كان سبب نزول الآية الكريمة "وما علّمناه الشعرَ، وما ينبغي له".

اقرأ/ي أيضًا: غابرييل غارسيا ماركيز.. يوم كان جزائريًا

قلت له: لمن قرأت من الشعراء العرب والغربيين؟ قال: تعمّدتُ النأيَ بنفسي عن قراءة كتابات غيري حتى أحافظ على صفاء نصي، إذ لا أضمن أن يتسلّل إليه شيء منها. قلت: عن أيِّ صفاءٍ تتحدث؟ إن ما سمعتُه منك مجرّد كلام عادٍ لا خيال ولا جمال فيه، بل إنه أقلّ جمالًا وخيالًا من كلام تلميذ في سنته الدراسية الأولى. قال: وكيف تفسّر أن فلانة استضافتني في برنامجها الإذاعي ثلاثَ مرات؟

وفلانة هذه شابة حسنة الصوت والوجه فعلًا، لكنها واحدة من الكائنات التي اختار الجهل أن يتجسّد فيها، فهي بالكاد تعرف أن المتنبي شاعر عربي، وليس فيلسوفًا يونانيًا، أما رامبو، فيمكنك أن تقنعها بأنه مرهم يزيل حَبَّ الشباب، أو أقراص تؤجل العادة الشهرية، وليس شاعرًا أحدث انقلابًا في الشعرية الغربية. رغم هذا، فهي تعدّ وتقدّم برنامجًا أدبيًا يحظى بتوقيت مهمٍّ في قناةٍ إذاعيةٍ مهمّةٍ، والنتيجة أنها تفتح المجال لكل من هبّ ولم يدبَّ، مزكيةً بذلك نخبة أدبية مغشوشة، تستغلّ منبرًا مهمًّا لأن تصبح مكرّسة، على حساب أقلام مبدعة وعميقة، تجد حرجًا في أن تظهر في هذه المنابر المخلّة بالحياء الأدبي.

وما يثير الدهشة والغثيان، أن مثل هذه الكائنات التي يُعدّ تحكمها في المنابر المؤثرة، مسبّةً للنخبة المثقفة الوازنة، تحظى روابطها و"منشوراتها" بإعجابات وتعليقات بعض الأسماء الفنية والثقافية الموصوفة بالكبيرة، حتى وإن وضعت صورة لكلبة ترضع قطًا، في مقابل يتم الروابط والمنشورات العميقة للأسماء العميقة، وتُدعى للإشراف على تنشيط حفلات افتتاح واختتام المهرجانات الأدبية والفنية والمسرحية والسينمائية، حتى أن منشطًا من هذه الفصيلة، سَأل، وهو يقدّم فرقة مسرحية فلسطينية، قدمت نصًّا لغسان كنفاني، إن كان كاتب النص موجودًا في القاعة؟

والسؤال الأول الذي يطرحه المقام: ألم تكفنا خمسون سنة من الاستقلال، لأن نضبط معاييرَ صارمة تقينا من تسلل الجهلة والمغشوشين والرديئين إلى منابرنا الأدبية والثقافية والفنية والإعلامية، حفاظًا على الذائقة العامّة؟ وهي الذائقة التي لا ينفع معها -إذا تشوّهتْ- أيُّ مسعىً حضاريٍّ أو جمالي؟

السؤال الثاني: ألم يكن من مصلحة الاحتلال الفرنسي، حين كان جاثمًا على الأنفاس الجزائرية، أن يزكي أقلامًا وأصواتًا مغشوشة جماليًا، لإعطاء انطباع بأن الجزائر فضاء غير مبدع؟ فلماذا لم يفعل ذلك، حتى إننا نستطيع القولَ إن أهمّ كتابنا هم أبناء تلك المرحلة، وفعلها النظام الحاكم بعد الاستقلال؟

إن العملة الجيّدة تطرد العملة الرّديئة، قاعدة سارية المفعول عالميًا، إلا في الجزائر وشبيهاتها، فالعكس هو السّاري، برعايةٍ ساميةٍ من المجتمع والدّولة معًا.

اقرأ/ي أيضًا:

إيقاف برنامجين سياسيين ساخرين في الجزائر

خوفًا من تسريب الامتحانات.. الجزائر تحاصر الإنترنت