13-يناير-2017

تعتبر عشيرة المقداد من أكبر العشائر اللبنانية والتي لا يزال الثأر قائمًا في عرفها الاجتماعي (أ.ف.ب)

تنحسر سلطة الدولة اللبنانية عن الكثير من أراضيها. وهي لم تلامس بعضها أصلًا منذ تأسيس الدولة تباعًا وفق "الصيغ" السياسيّة التي سادت قبل ولادة لبنان الكبير في العام 1920 وفيها نظامَي "القائمقاميتين" و"المتصرفية". الولايات الموزّعة شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، تم تفكيكها وإعادة ربطها ببعضها البعض لتشكّل خريطة لبنان النهائية. ومع سنّ القوانين ووضع التشريعات، لم تتمكن السلطة "الشرعية" المركزية من تطبيقها على كل الأطراف كما في المركز. ولأن لا مكان للفراغ، فإن واقعاً يملأه "الأمر الواقع" في المناطق التي لم يصلها سلطان الدولة من الأساس بسبب البعد الجغرافي أو التهميش، أو نمت فيها سلطات محليّة إما حزبية أو عائليّة تفوّقت في سطوتها على الدولة ومنعتها من الدخول إلى "مملكتها وممتلكاتها".

ينتشر الثأر العائلي والطائفي والمناطقي في لبنان بسبب غياب سلطة الدولة وسيادة ذهنية العشائر والقبليات والمذهبية

هذا "الأمر الواقع" يأمُر وينهى، ويحكم وفق منطقه وشرائعه وسُلّم قيمه، التي تخصّه وحده دون سواه. قد يتماهى في بعض الأحيان مع الدولة، ولكنه لن يتردد في أي وقت عن معارضتها وفرض منطقه على الناس وعليها. حتى أنه يثأر منها ومن عناصره، وفي هذا الإطار كان مقتل أحد العسكريين الشهر المنصرم على أيدي إحدى العشائر في بعلبك انتقامًا لابنها. وهذه الحال "المزمنة" تُختصر بالعشائرية، التي رغم أنها تعني في الأساس الكثير من قيم الأصالة والعراقة إلا أنها تستحضر في أذهان اللبنانيين تعابير التمرّد والبطش والانحلال من قيود القوانين. حتى أن كثرًا من المطلوبين إلى العدالة يحتمون بعباءة العشائرية ومن يمثّلها للإفلات من العقاب.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يستعيد اللبنانيون ملف النفايات مع الشتاء؟

و"لأن الدم ما بيصير ميّ"، فإن القانون لا يزال حتى اليوم قاصرًا عن إحقاق الحقّ وفق منظور الخارجين عن القانون وإن كان هؤلاء بثياب "سينيه" وشهادات جامعيّة عالية من لبنان والخارج. فالذهنية التي تقبل بالثأر وتُشرّعه وتعتبره ليس جائزًا فحسب بل واجبًا على صاحب الحق، لم تعد تقتصر على الجُهّال والأُميّين وورثة العقلية الرجعية. فهذه الأخيرة قد يُعاد توضيبها وتوليفها بـ"لوك" عصري وجديد لكن مضمونها يبقى على حاله. فتُستعاد بما كانت عليه متى دعت الحاجة.

الثأر الذي يشفي بعض القلوب المفطورة ويُنهي الأمور العالقة بعيدًا عن "قوس العدالة"، لم تُعصم من الوقوع في شروره أي من المناطق اللبنانية. لكن الحالات الفردية التي قد تظهر هنا وهناك لا تجعل منه ظاهرةً فعليّة إلا في مناطق دون أخرى. وهو إن شاع فيها لا يمكن تعميمه واعتبار هذه البلدة أو تلك المدينة خارجة تماماً عن القانون. اللهم إلا بعض المساحات الجغرافية التي قد تضيق أو تتسع وفق سلطة "حكامها الميدانيين".

جريمة الشرف واحدة من جرائم الثأر المنتشرة في لبنان

في تاريخها، برز من الجغرافيا اللبنانية بلدات بقاعية وشماليّة تتكرر فيها حوادث الثأر والثأر المضاد، الذي يتتابع ويتوارث أبًا عن جد. وتصل فيها الوقائع الدرامية إلى حدود الاشتباك المسلّح الذي يتوسّع ليشكل "ميني" حرب أهليّة محليّة. وقد اشتهرت في هذا الإطار عائلات لبنانية تتكل على "زندها وزنادها" لتأخذ حقها بيدها. فالدولة في مكان وهم في مكان آخر. دون أن يعني ذلك أن كل هذه العائلة بشيبها وشبابها يقبلون بمنطق الثأر ويطبقونه، غير أن "الوصمة" تطبع الإسم وتلاحقه.

وإذا كان قانون حمورابي هو الأساس في هذا الإطار، فإن "العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم" منطق يستتبع المعاملة بالمثل والجريمة بأخرى. فيما تتخذ "جريمة الشرف"، التي تتسع معها دائرة الغيورين على العرض لتشمل كل المناطق اللبنانية. بصورة فردية طبعًا. فتكون تحت عنوانها كل أساليب الانتقام مشروعة ومبرّرة. ورغم إبطال المادة 562 من قانون العقوبات المتعلقة بجرائم الشرف عام 2011، إلا أن الثأر لا يعرف قانونًا ولا يقف عند روادع الدولة.

اقرأ/ي أيضًا:

هل ينتهي تزويج المغتصبين من ضحاياهم في لبنان غدًا؟

شبكة "شي موريس": الاتجار بالنساء في لبنان الفاسد