09-مارس-2021

غرافيتي في القاهرة (Getty)

تعاني الدولة العربية المعاصرة من عدة إشكاليات بنيوية ناتجة عن معضلة التشكّل المتأخر في القرن الماضي، والذي وصل بها إلى شكلها الحالي "الدولة القومية الحديثة" الناتج عن انحسار نفوذ النمط القديم من الدولة "الحكم العثماني/ الدولة العثمانية"، والاستعمار الغربي (الفرنسي والإنجليزي/ الإيطالي) الذي فرض نمطًا جديدًا من الحكم والدولة والإدارة ومحاولات لإعادة تشكيل المجتمع 1، مما أبرز إشكاليات عدّة، أهمها علاقة المجتمع بالدولة، وظلّت بعض القضايا الجوهرية كقضايا علاقة الدين بالدولة والدولة بالدين، وأولوية العمل الوطني، تتململ في منحنيات الصعود والهبوط تبعًا للسياق التاريخي الذي يحكم الدول العربية بعد التشكّل الجديد والمتأخر للدولة العربية بشكلها القومي، إلا أن هذه القضايا لم تتسم بالحسم الكافي إلى الآن، ويُعزى ذلك إلى عدم ثبات ما يُطلق عليه "التيار الأساسي" للأمة العربية بشكل راسخ، وإن كان موجودًا لفترات عدّة، كما ستبين الورقة لاحقًا. ويمكن أن يُعرّف التيار الأساسي للأمة في أضيق الأحوال وفق مفهوم المستشار طارق البشري على أنه: "الملامح العامة المتضمنة في أطروحات تيارات عديدة ومتنوعة" 2، والذي يتمكّن من حسم القضايا المعضلة، وكيفية العمل على حلّها وأولوياتها وحجمها في المجال العام للأمة.

تعاني الدولة العربية المعاصرة من عدة إشكاليات بنيوية ناتجة عن معضلة التشكّل المتأخر في القرن الماضي، والذي وصل بها إلى شكلها الحالي "الدولة القومية الحديثة"

ولأن التيار الأساسي -كما نعرّفه في الورقة- لم يُرسّخ بعد في الدولة العربية، أو على الأقل في الحالة التي تتناولها الورقة "مصر" إلا أنه قد وجد طريقه إلى التنظير في كتابات المستشار طارق البشري، القاضي المصري والمفكر الذي تولّى مناصب قضائية عدة كان أهمها نيابة مجلس الدولة المصري لعدة سنوات، ورئاسة قسمي الفتوى والتشريع في المجلس لسنوات، ورئاسة لجنة تعديل الدستور المصري بعد ثورة 25 يناير 2011، ومن هنا تأتي أطروحة البشري كمفكر وقاضٍ متفاعل مع الشأن العام والبيئة السياسية المصرية لينظّر، ويستخلص عبر قراءته للتاريخ لما أسماه "التيار الأساسي للأمة" 3.

اقرأ/ي أيضًا: "ما بعد الإسلاموية" وفهم تحولات الحركات الإسلامية.. في نقد أطروحة آصف بيات

تحاول هذه الورقة الوقوف على أطروحة "التيار الأساسي" وتفكيكها، عبر قراءة ما نظّر له واستخلصه عبر قراءة التاريخ المصري الحديث المفكر المصري طارق البشري، ومحاولة الإجابة على السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن أن تكون أطروحة التيار الأساسي واقعية؟ وهو ما يمكن تقسيمه إلى عدة أسئلة فرعية: ما هي أطروحة "التيار الأساسي للأمة"؟ ما أهم عناصرها؟ وكيف تجد سبيلها للتطبيق وفق ما طرحه "البشري"؟ وكيف يمكن ملائمة أطروحة التيار الأساسي للأمة مع رؤى الدولة والأمة عند القوى السياسية والمجتمعية؟

ما هو "التيار الأساسي للأمة؟

يُعرّف البشري "التيار الأساسي للأمة" نصًا بأنه: أكبر قاسم مشترك بين التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية في هذا البلد، ويعني به الملامح العامة المتضمنة في أطروحات تيارات عديدة ومتنوعة، وهذه الملامح تختزل ما تتفق عليه هذه التيارات في سياق تعاطيها مع متطلبات المرحلة التاريخية 4. ويدفعنا هذا المفهوم للوقوف على نقاط هامة حاول البشري التأكيد عليها، أولها وجود تيارات سياسية واجتماعية متباينة في بلد ما، وثانيها أن تتبنى هذه التيارات اتجاهات ورؤى سياسية واجتماعية، تطرحها في المجال العام بغية أن يتبناها أكبر قدر من المواطنين، وثالثها أن يحدث اتفاق مضمر بين هذه التيارات السياسية على الحد الأدنى من المبادئ والتوجهات والرؤى التي تجمعهم رغم التباين الأيديولوجي والاستراتيجي، وهو المتحقق بقدر كبير في الدول التي تشهد رسوخًا ديمقراطيًا وعهدًا من التداول السلمي للسلطة تنظمه اللوائح والقوانين.

إذًا، التيار الأساسي عند البشري، هو اتفاق على مجموعة من المبادئ والقيم تكفل العيش المشترك والعمل المشترك بين الفرقاء السياسيين، سواء كان أحدهم في السلطة أو كانوا خارج السلطة.

ومن ثم ينتقل البشري في أطروحته -التي تروم هذه الورقة تناولها بالتفكيك والنقد- إلى التاريخ المصري ليرى مدى تجلي التيار الأساسي للأمة، ويجادل بأن المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الأولى 1914 كانت أبرز هذه التجليات، حيث تجلّيت فيها عملية المطالبة برحيل المحتل البريطاني من الأراضي المصرية واتفقت القوى السياسية والمجتمعية والمكونات الثقافية للبيئة المصرية على ما سبق كأولوية للعمل الوطني، اتفقت القوى الوطنية على رحيل المحتل كشرط أساسي لتحقيق النهضة والتنمية 5. تبنّت هذه الرؤية شخصيات سياسية عملت على ترسيخ هذا المبدأ، أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد والشيخ عبد العزيز جاويش 6.

ويجادل البشري بأنه على الرغم من تعدد الرؤى المتعلقة بشأن جلاء المستعمر -حيث كانت ترى عدد من القوى السياسية أن الطريقة الأمثل لجلاء المستعمر تكمن في المقاومة المسلحة على غرار عمليات الفدائيين في ضرب القوات البريطانية في السويس، وقوى أخرى تراها بالتفاوض والعمل على تطوير ومراجعة الذات- إلا أنه كانت هناك اتفاقات على الكُليات التي تمثلت في رحيل المحتل الأجنبي، وإن بمداخل تفسيرية مختلفة (المقاومة أو التفاوض وإصلاح الذات) وهنا تتجلى أطروحة "التيار الأساسي للأمة 7.

التيار الأساسي للأمة هو اتفاق على مجموعة من المبادئ والقيم تكفل العيش المشترك والعمل المشترك بين الفرقاء السياسيين

تجادل كذلك الأطروحة بأنه على الرغم من التباين الكبير بين الرؤيتين إلا أن الجدالات الفكرية -وما يطلق عليه التدافع الفكري- أوصلت البيئة المصرية إلى الثورة (1919)، التي مّثلت نقطة التقاء ووصول إلى "الثورة"، ولقد ظلّت الحوارات والنقاشات الفكرية التي بدأت منذ ذلك الحين خاصة عن علاقة الدين مع الدولة وأسباب والتخلف والنهوض، وغيرهم من المواضيع المتصلة، قائمة إلى هذه اللحظة، ليس فقط في مصر، ولكن في أقطار عربية أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: الإسلاميون وأزمة الوصاية على الآخر

وقد أثّرت ثورة 1919 التي شهدت تجليًا لأطروحة "التيار الأساسي للأمة" على المرحلة التي تلتها، خاصة وأن مصر شهدت بعد ذلك تجربة نيابية ليبرالية لم تشهدها من ذي قبل، أنتجت هذه التجربة تيارات وجماعات سياسية، حتى عام 1950، فكان فيها الوفد التقليدي الذي ظلّ متمسكًا بـ مبدأ التفاوض على رحيل المستعمر، والحفاظ كذلك على التجربة النيابية، إضافة إلى الإخوان المسلمين الذي كانوا يعتبرون أن الإسلام لا بد أن يكون مرجعًا للحركة الوطنية، ولقد كانت كتابات حسن البنا في هذا الوقت شاهدة على ذلك، حيث رأي أن الحركة الوطنية التي نادت "برحيل كل ذي سلطان أجنبي" لا بد أن تنطلق من روح الإسلام 8. وقبل ذلك الحزب الوطني الذي حدّد مطالبه أكثر رحيل المستعمر والتخلص من نفوذه بأي طريقة، والحركة الاشتراكية التي كانت ترفع مطالب العدالة الاجتماعية بعد التوافق على رحيل المستعمر، إذًا فإن هذه المرحلة شهدت تبلورًا للتيار الأساسي وتوفيقٍ لتيارات متمايزة بين قومية وليبرالية وإسلامية 9. بعد ذلك يرى البشري بأن حركة الضباط "تنظيم الضباط الأحرار" كانت ترجمة حقيقية لرسوخ هذا التيار في البيئة السياسية المصرية، وفي هذا الطرح يجب أن نذكر أنه بالفعل كان عدد من الضباط الذين شكّلوا التنظيم انتموا إلى تيارات سياسية، مثل جمال عبد الناصر الذي انتمى لفترة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وعبد المنعم عبد الرؤوف 10، ويرى البشري ما لم يُنجح التجربة "تجربة التيار الأساسي" هو تقوقع "الضباط الأحرار" بعد انقلابهم الشهير في يوليو 1952 داخل مؤسسات الدولة، دون وجود ظهير من الأحزاب السياسية والحركات، حتى أن أولى قرارات المجلس كانت حلّ الأحزاب السياسية، وحلّ الإخوان بعد ذلك في 1954 والميل إلى تفاعل الدولة المباشر مع الشعب دون الأحزاب.

معوقات التيار الأساسي للأمة؟

ترى أطروحة التيار الأساسي للأمة أن هناك 4 تيارات أساسية جُبلت الدولة المصرية عليها منذ القرن الماضي وتغلغلت بشكل أساسي وإن اختلفت أوزانها النسبية في البيئة السياسية والتي عادة ما تختلف بين الصعود والهبوط تبعًا للسياق السياسي 11، أولها: التيار الإسلامي الذي تمحورت رؤيته للمجتمع حول أن يمثل الإسلام المرجعية الأساسية والدائمة لحل كل القضايا، وثانيها: التيار القومي الذي كان يرى فكرة الجامعة السياسية المصرية، وثالثها: التيار الليبرالي والذي كان يركز على اللبرلة الاقتصادية وفكرة السوق المفتوحة، دون إهمال القضايا السياسية، ورابعها: التيار الاشتراكي الذي كانت له اهتمامات تتعلق بوضع الدولة في الاقتصاد واستخدم مقاربات طبقية لتفسير الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، ورغم ذلك آل التيار الاشتراكي في مصر إلى الضعف بسبب عوامل ذاتية تتعلق بالانقسامات التي مرّ بها التيار الاشتراكي في مصر بسبب تدخل السلطة تارة، وبسبب الانقسامات الداخلية، وبسبب عوامل ضعف التيار الاشتراكي في العالم كله 12. ورغم أن ما تبقى من هذه التيارات راسخًا في المجتمع كان على هيئة تيارين: الأول: إسلامي يؤكد على الجامعة الإسلامية لمسلمي مصر والعالم، وتيار قومي علماني يؤكد على اللغة والاتصال التاريخي والجغرافي - أي صلة الزمان والمكان- كجامع قومي يضم المصريين كافة في جامعة سياسية واحدة وإن اختلفت أديانهم، إلا أنه كانت هناك غايات جامعة اختلفت باختلاف الزمن وهو ما يجمع فكرة "التيار الأساسي للأمة" 13.

لذا يجادل البشري بأن أهم ما يعوق وجود التيار الأساسي للأمة هو أن تصير القضايا المركزية إلى قضايا هامشية 14، ونعني بالمركزية هنا ألا تكون وحدها في الصدارة وألا تهمل القضايا الملحّة مجتمعيًا كقضايا الفقر والبطالة لصالح قضايا تنعتها الدولة والحكومات بأنها القضية المركزية الأهم، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى بعض الأنظمة السلطوية العربية التي مَرْكَزَت القضية الفلسطينية لدرجة نفت بها وجود أي قضايا أخرى كقضايا الحريات العامة والحريات السياسية، والصحة والتعليم والفقر وغيره، وهو ما دفع البعض من الشعوب إلى دعوة الحكومات للتخلي عن القضية الفلسطينية العادلة من أجل العمل على القضايا الداخلية الأكثر إلحاحًا.

وكذلك بالنسبة إلى الحركات الإصلاحية والسياسية التي تجعل من بعض القضايا الخارجية -أي خارجة النطاق التنظيمي للحركة- معطلًا عن أي دعوات للإصلاح الهيكلي والمؤسساتي داخلها، أو القيام بعمل مراجعات فكرية، مما يوقعها في الجمود الذي يعطلها عن الفاعلية في البيئة السياسية.

أكثر ما يعوق فاعلية التيار الأساسي للأمة هو تهميش القضايا المركزية أو مركزة القضايا الهامشية لتحل محل القضايا التي تمثل وزنًا كبيرًا في البيئة السياسية

يتبين لنا مما سبق، أن أكثر ما يعوق فاعلية التيار الأساسي للأمة هو تهميش القضايا المركزية أو مركزة القضايا الهامشية لتحل محل القضايا التي تمثل وزنًا كبيرًا في البيئة السياسية، بعبارة أخرى، وهنا أقتبس من البشري: "مسألة التيار الأساسي هي امتداد لحركة المشروع الوطني العام، تتم بلورته عن طريق الاستخلاص من الواقع الحي للحركة السياسية والثقافية القائمة في المجتمع" 15، أي أنه لا يكون معطى سابق قبل أن تتدافع الحركات والمكونات السياسية للمجتمع على العمل عليه، وهو يأتي نتيجة حوار دائم، والحوار هنا -على حد توصيف البشري- لا يأتي من خلال لقاءات وندوات فقط، بل من خلال كل أشكال اللقاءات والحوارات والتفاعلات، وربما تساعد وسائل التواصل الحديثة الآن على التسريع من وتيرة أشكال الحوار. ولعل أشكال الحوار التي اتفقت فيها القوى السياسية المصرية في العقد الذي سبق ثورة الخامس والعشرين من يناير وتكوّنت لأجله حركة "كفاية" عام 2004 والجمعية الوطنية للتغيير "2011"، كان تمثيلًا واعيًا وحقيقيًا للتيار الأساسي للأمة، وقد ساهم في بلورة مطالب القوى السياسية التي تحققت بعد ذلك في ثورة يناير 2011 16، بعبارة أخرى فإن الحوارات التي تنشأ بين الفرقاء السياسيين تكوّن لديهم فكرة عامة عن التيار الأساسي للأمة.

اقرأ/ي أيضًا: تعرف على السيرة الكاملة للسلفية في مصر من المسجد إلى البرلمان

ألا يحدث هناك تناقض بين الدولة والأمة

وهنا يثير البشري نقطة هامة ومفصلية في عوائق التيار الأساسي للأمة وهي تتعلق برؤية الدولة والأمة، خاصة أنه يحاول في هذا التيار أن يجمع بين روافد سياسية واجتماعية متناقضة -بل إنه يضم في بعض الأحيان إلى التيار الأساسي الوجهاء والمؤثرين- كالإسلاميين الذين تختلف عندهم مفاهيم الدولة والأمة عن العلمانيين! وهنا يجادل البشري بأن البيئة المصرية قد تختلف، فمصر دولة مركزية منذ فجر التاريخ، وما حدث أنها فقط انتقلت إلى نمط الدولة الحديثة، وأن الحداثة التي تحوّلت إليها مصر -وهنا يعني انتقالها إلى الدولة الأمة nation state- كانت على حساب العمل الأهلي، وأبعدت الدولة المصرية التي ترسخت، المجتمع الأهلي مثل المدارس الوقفية والطرق الصوفية والملل والطوائف عن الفاعلية المجتمعية، وحلّت الدولة المصرية مكانهم 17. وهذا ما مكّن للدولة المصرية من التعمّق والتغوّل في قطاعات تمكنّها أحيانًا من تشكيل البنية الاجتماعية. وقد نتج كذلك عن هذا الأمر، أن ترسّخت الدولة ككيان منضوي على مؤسسات فاعلة ومهيمنة على الأمة، ونشأ ما يمكن تسميته وفق "البشري" حلولية الدولة الحديثة في الأمة فلا يتحقق التوازن المطلوب بين الدولة وجماعات الأمة التي تمثل تيارها الأساسي 18. إلا أن وفق "البشري" أكثر ما يجمع قِوى التيار الأساسي في الأمة هو قضية التحرر، والتحرر هنا ليس من المحتل الأجنبي فقط، بل من التكبّل بقيود الدولة ولاسيما المستبدة منها، التي تحلّ محلّ الأمة 19.

حوارات التيار الأساسي في البيئة السياسية المصرية

يجادل البشري بأن التيار الأساسي للأمة كان نسبي الوجود في البيئة السياسية المصرية، وأنه تحقق بشكل فاعل في الحوارات التي أثيرت بين عامي 1982، س وأن المرحلة السابقة على هذين العامين وكذلك المرحلة اللاحقة عليهما لم يبرز فيها التيار الأساسي بشكل كافٍ، وتمحورت القضايا التي اهتم بها التيار الأساسي حول القضية الفلسطينية ومدى نجاعة الصلح والسلام مع "إسرائيل"، ومشكلات داخلية مصرية، كموقع الدين من التشريع. وأُخذت البيئة السياسية المصرية بعد ذلك تشهد اختفاءً للتيار الأساسي للأمة، عبر إثارة قضايا هامشية أثارت استقطابًا حادًا، مثل قضية "سلمان رشدي" 20 وقداسة النص الديني بعد كتابات الدكتور نصر حامد أبو زيد التي انحرفت عن حيزها الصحي في إثارة نقاشات فكرية، وقضية اغتيال فرج فودة عام 1991 21، وقضية شركات توظيف الأموال، أثارت هذه القضايا نقاشات تعدت حدود التيار الأساسي، بل عملت على تفتيته عبر إثارة استقطاب حاد.

لذا يثير البشري نقطة هامة وهي أن القضايا المجتمعية هي أكثر القضايا التي 22 تساعد على تفرقة التيار الأساسي للأمة، وذلك عبر إثارة قضايا خلافية ليست ذات اهتمام مجتمعي كقضية الزوجة الثانية والثالثة مثلًا، والتي تتحول إلى معارك لا تُثري النقاشات العلمية والفكرية، ويكون الهم فيها هو الخروج منتصرًا. راهنيًا يمكن قياس هذا على القضايا التي تتعلق بوضع "خانة الديانة في بطاقة الهوية، أو المطالبات بتشريعات تجيز زواج المثليين، أو غيره من القضايا التي يطالب عدد من التيارات السياسية النظام القمعي في مصر بتشريعها!

ويجادل البشري بأن هذه الاستقطابات الحادة تمثل في النهاية دعوات متطرفة تحاول فيها القوى السياسية والمجتمعية نفي بعضها البعض عن الفاعلية وتتحول إلى معارك صفرية، في بعض الحالات لا يستفاد منها سوى في ترسيخ السلطويات العربية 23.

مهام التيار الأساسي للأمة

يمكن القول بأن أصالة القضايا التي ينافح عنها التيار الأساسي للأمة تكون إحدى محفزات وجوده، بل يسوّق "البشري" ببراعة لفكرة مفادها أن استيراد قضايا هامشية لسبب أنها رائجة في الغرب وتسويقها في المجتمعات العربية كقضايا مركزية هو جوهر التبعية للغرب 24، لذا يرى أن مهمة التيار الأساسي للأمة تقوم على دور طليعي في توجيه الأمة نحو قضايا أساسية وذات أولوية 25 وهنا يمكن توجيه النقد لهذا الطرح، إذ يفترض "البشري" أن التيار الأساسي يتكون نتيجة الاتفاق على قضايا بعينها، ومن ثم يعزي إلى التيار الأساسي مهمة الحفاظ على أولوية هذه القضايا وهو ما يتناقض مع أطروحته، فأي الأشياء أسبق، القضية التي تتجمع عليها القوى السياسية أم القوى السياسية التي تتفق على التجمع حول قضية بعينها. إضافة إلى ما يمكن استنباطه من أطروحة "البشري" في أن التيار الأساسي للأمة لابد أن يقوم بنشر ثقافة الديمقراطية والتي يضع البشري لبناتها في آخر أطروحته، فيعرّف الديمقراطية ويوائم بينها وبين الشورى، ويعرّج عن التعددية السياسية والإصلاح المؤسسي، لكنه يدور حول فكرة "القوى المنظمة المؤمن بالديمقراطية التعددية" بغض النظر عن اتجاهاتها الايديولوجية ومرجعياتها، وهي الفكرة التي نظّر لها عزمي بشارة في كتابه "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" 26 وتابعها بعد ذلك في تفكيكه لأسباب فشل الثورة المصرية التي لم تتواجد فيها قوى سياسية تؤمن بالديمقراطية وراحت نحو معارك استقطابية تمحورت حول قضايا مجتمعية وسياسية وفكرية ولم تتفق على الحد الأدنى من المبادئ التي تتيح العمل على أرضية مشتركة لعمل انتقال ديمقراطي يخرج بموجبه العسكريين من السلطة 27.

تُعزى للتيار الأساسي للأمة مهمة الحفاظ على القضايا ذات الأولوية داخليًا وخارجيًا بالنسبة للدولة

يمكن القول بأن التيار الأساسي للأمة وفق تفكيك أطروحة البشري، تُعزى إليه مهمة الحفاظ على القضايا ذات الأولوية داخليًا وخارجيًا بالنسبة للدولة، بل إنه يمثل صوت العقلانية في مقابل جماعة "الدولة" التي من الممكن أن تميل نحو تبني أطروحات مغايرة عن العقلانية، أو مصلحة الأمة، وهنا يشبه ما حدث في حركة "كفاية" التي تكونت من قوى سياسية مصرية متباينة عام 2004، والتي مثّلت صوت التيار الأساسي للأمة في مواجهة مشاريع أقدم عليها مبارك مثل اتفاقية بيع الغاز عام 2005، ورغم أنها تمت بالفعل، إلا أن صوت التيار الأساسي مثّل رفضًا تامًا لمثل هذه الممارسات وهو ما تُرجم على هيئة تحركات شعبية، وتظاهرات، وندوات، ودعوات قضائية أمام المحاكم وغيرها.

اقرأ/ي أيضًا: بلدان غير مكتوبة.. بلدان أُميّة

قضية الديمقراطية والتيار الأساسي للأمة

وفق أطروحة البشري فإن أكثر ما على التيار الأساسي للأمة الالتزام به هو التلازم بين الديمقراطية كهدف والاستقلال الوطني 28، وحدد عددًا من المبادئ الديمقراطية التي تقوم على المواطنة والتي يعرفها بأنها الوصف الجامع للأفراد والجماعات الذين تتشكل منهم الجامعة السياسية وتقوم به الدولة 29، التي على القوى السياسية والاجتماعية الالتزام بها والعمل على تبنيها من أجل بنية قوية للتيار الأساسي للأمة. ويعددها البشري في خمسة نقاط سأسردها دون الدخول في تفاصيل -ليست الموضوع الرئيسي للورقة- أولها: لا استقلال دون حرية سياسية، وأن الاستقلال والسعي نحو الديمقراطية متلازمتان 30. وثانيها: الديمقراطية تقتضي التوازن بين القوى السياسية والاجتماعية وفقًا لعلاقات توازن بينهما 31. وثالثها: وجوب الفصل بين المؤسسات وبين الأشخاص التي تعمل فيها، بمعنى ألا تحل الشخوص السياسية في المؤسسات وألا تطبع عليها، وألا يتم دمج العام بالخاص 32ورابعها: أن التعدد لا يمكن اختزاله فقط في عدد المؤسسات والهيئات والأحزاب والجماعات، بل يكون التعدد في جوهره تعدد التشكيلات والتكوينات الاجتماعية الشعبية التي تقوم عليها القوى السياسية والاجتماعية للتيار الأساسي للأمة. وخامسها: أنه لا مخالفة بين الديمقراطية والشورى، وأن الديمقراطية هي محصلة نماذج تنظيمية أسفرت عنها تجارب الشعوب، وأنها تنظم بها حياتها وحقوقها مثل حق التمثيل عبر آلية الانتخاب، وكذلك فإن الأحزاب هي المفهوم الحديث للفرق والملل وأن التعددية السياسية هي كتعدد مذاهب المسلمين 33. خامسًا: لا مخالفة بين الديمقراطية والشورى، لأنه يرى أن الديمقراطية نماذج تنظيمية أسفرت عنها تجارب الشعوب، وأنها تنظم بها حياتها وحقوقها مثل حق التمثيل والانتخاب، والأحزاب هي الفرق السياسية لكن بشكلها الحديث، والتعددية السياسية هي ما تعددت به مذاهب المسلمين قديمًا. وهنا يحاول البشري التوفيق بين نهج الحداثة والإسلام، والتي يراها عدد آخر من المفكرين أن هذا الإلباس للمفاهيم الإسلامية بمفاهيم الحداثة صعب التوفيق.

أكثر ما على التيار الأساسي للأمة الالتزام به هو التلازم بين الديمقراطية كهدف والاستقلال الوطني، إلى جوار المبادئ التي تقوم على المواطنة

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "تاريخ التأريخ".. حفريات نقدية في اتجاهات التأريخ العربي ومناهجه

بهذا يمكن القول بإن أطروحة التيار الأساسي للأمة المتكاملة والتي صاغها البشري مستخلصًا بنيتها من الحالة المصرية، ورغم أن الأطروحة نُشرت في سياق تاريخي فاصل -بعد الثورة المصرية 2011- إلا أنها لم تلقَ رواجًا كافيًا وسط حالة الاستقطاب السياسي الحاد الذي عايشته البيئة السياسية المصرية بعد ثورة يناير 2011، والتي شهدت تجليًا للقضايا الهوياتية والأيديولوجية والتي أخذت منحًا مغايرًا في البيئة المصرية ولم تستوِ هذه الحوارات لما يمكن أن يشكّل تيارًا أساسيًا، رغم حاجة البيئة السياسية المصرية إلى تبلور مثل هذا التيار الأساسي، لكن غيابه أدّى إلى حدوث انقلاب تموز/يوليو 2013 الذي قضى على أي فرصة لحوارات سياسية أو فكرية حقيقية!

 

هوامش

1- 1 See more: Adham Saouli, The Arab State: Dilemmas of Late Formation، (London: Routledge, 2012). 

2- طارق البشري، نحو تيار أساسي للأمة، (بيروت: دار الشروق) 2011. ص 7.

3- تتناول الورقة أطروحة التيار الأساسي للأمة استخلاصًا من المرجع السابق.

4- البشري، ص 7.

5- البشري، ص 7- 9.

6- المرجع نفسه.

7- المرجع نفسه، ص 12.

8- يُنظر في ذلك إلى رسائل البنا، خاصة رسالتي المؤتمر الخامس، ورسالة إلى الشباب.

9- البشري، ص 10.

10- للمزيد: محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، رؤية من الداخل، ج 1، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، ط5، 1194.

11- فمثلا اختفى التيار الإسلامي عن دائرة الفاعلية السياسية بعد مجيء عبد الناصر إلى الحكم وتصنيفه للإخوان كجماعة محظورة بعد حادثة المنشية عام 1954، وكذلك لم يعد حزب الوفد فاعلًا في البيئة السياسية المصرية لسنوات طويلة بعد حلّ الأحزاب عام 1953.

12- البشري، ص 12.

13- طارق البشري، بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي، دار الشروق، ط 1، 1998، ص5.

14- البشري، نحو تيار أساسي للأمة، ص 15.

15 -المرجع نفسه، ص 16.

16- للمزيد انظر: عزمي بشارة، ثورة مصر، ج 1، ط 1، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016).

17- البشري، نحو تيار أساسي للأمة، ص 25 – 26.

18- المرجع نفسه.

19- المرجع السابق، ص 65- 73.

20- للمزيد: انظر، سلمان رشدي، ويكيبديا.https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86_%D8%B1%D8%B4%D8%AF%D9%8A

21- للمزيد: أحمد عبد الحكيم، قصة المناظرة التي قتلت المفكر المصري فرج فودة، إندبندت عربي، 10/6/2019، شوهد في: 5/12/2020، في: https://bit.ly/3n88WTn

22- البشري، نحو تيار أساسي، ص 20.

23- البشري، نحو تيار أساسي للأمة، ص 20 -29.

24- نفس المرجع، ص 19.

25- نفس المرجع، ص 20 - 25.

26- عزمي بشارة، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، ط4 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)

27- صاغ عزمي بشارة هذه الأفكار في محاضرته التي ألقاها في "الكوليج دو فرانس"، محاضرة عامة للمفكر العربي عزمي بشارة في "الكوليج دو فرانس" حول تجارب الانتقال الديمقراطي عربيا، 3/12/2019، شوهد في 7/12/2020، في: https://www.youtube.com/watch?v=ONCjeb75TNk&t=9s

28- المرجع نفسه، ص 61.

29- المرجع نفسه، ص 62.

30- المرجع نفسه، ص 61.

31- المرجع نفسه، ص 64.

32- المرجع نفسه، ص 68.

33- المرجع نفسه، ص 73، 74.

 

قائمة المراجع

  •  Adham Saouli, The Arab State: Dilemmas of Late Formation، (London: Routledge, 2012).
  • أحمد عبد الحكيم، قصة المناظرة التي قتلت المفكر المصري فرج فودة، إندبندت عربي، 10/6/2019، شوهد في: 5/12/2020، في: https://bit.ly/3n88WTn
  • حسن البنا، رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، تقديم د.محمد بديع (دار النشر والتوزيع).
  • طارق البشري، بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي، دار الشروق 1، 1998.

طارق البشري، نحو تيار أساسي للأمة، (بيروت: دار الشروق) 2011.

  • عزمي بشارة، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، ط 4 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018).
  • محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، رؤية من الداخل، ج1، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، ط 5، 1994.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزاءات العقل إزاء فداحة الواقع المعاش

كتاب "أسئلة الحداثة في الفكر العربي".. من الهوية إلى المعنى