التوريث العسكري يتكرّس في ليبيا: أبناء حفتر يمسكون بمفاصل الجيش في الشرق
20 أغسطس 2025
تشهد المؤسسة العسكرية في شرق ليبيا تحوّلات جذرية بعد سلسلة من القرارات التي صادق عليها مجلس النواب، والتي مهّدت الطريق أمام تمكين أبناء اللواء المتقاعد خليفة حفتر في قمّة هرم القيادة.
فقد جرى ترقية خالد حفتر إلى رتبة فريق أول وتعيينه رئيسًا لهيئة الأركان العامة، في خطوة تعكس تعاظم نفوذ أبناء حفتر داخل المؤسسة العسكرية.
وسبق ذلك إدخال تعديلات على القوانين العسكرية واستحداث مناصب جديدة، أفضت إلى تعيين صدام حفتر نائبًا للقائد العام ضمن ما يُعرف بـ"القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية".
هذه التغييرات شكّلت صفعة للمحاولات الرامية إلى توحيد المؤسسة العسكرية، وأثارت جدلًا سياسيًا وقانونيًا محتدمًا بين من يرى فيها اقتراب ليبيا من سيناريو "التوريث العسكري"، ومن يعتبرها "مأسسةً وإعادة هيكلة" للقيادة.
جرى ترقية خالد حفتر إلى رتبة فريق أول وتعيينه رئيسًا لهيئة الأركان العامة، في خطوة تعكس تعاظم نفوذ أبناء حفتر داخل المؤسسة العسكرية
خلفية تشريعية: قانونٌ على المقاس
صادق مجلس النواب في بنغازي على تعديل القانون رقم (1) لسنة 2015 الخاص بتنظيم صلاحيات القيادة العليا في الجيش. التعديل استحدث منصب نائب القائد العام ومنح القائد العام صلاحيات أوسع في التعيين والتدوير، وهو ما اعتُبر خطوة "مفصّلة" لتثبيت صدام حفتر في موقع متقدّم. بالتوازي، مرّر البرلمان قرارًا آخر بترفيع خالد حفتر لقيادة هيئة الأركان، وعيّن الفريق أول عبد الرازق الناظوري مستشارًا للأمن القومي، منهيًا مهمته على رأس هيئة الأركان.
قرارات مثيرة للجدل
المتحدث باسم البرلمان في شرق ليبيا، عبد الله بليحق، أوضح أن التعديلات حظيت بتصويت بالإجماع، مشيرًا إلى تكليف الفريق أول عبد الرزاق الناظوري مستشارًا للأمن القومي بدلًا من موقعه السابق رئيسًا لهيئة الأركان. كما أحال البرلمان مشروع قانون الدين العام إلى لجان متخصصة لمزيد من الدراسة.
مصادر برلمانية أكدت لصحيفة "العربي الجديد"، أن رئيس المجلس عقيلة صالح وقع القرارات بصفته "القائد الأعلى للقوات المسلحة"، وهو ما أثار اعتراضات على قانونية الخطوة.
ردود فعل متباينة
القرارات قوبلت بترحيب في الشرق الليبي، إذ بارك رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان أسامة حماد التعيينات، واعتبرها منسجمة مع "رؤية 2030" لتطوير الجيش.
بالمقابل، اعتبر المجلس الرئاسي، عبر عضو المجلس عبد الله اللافي، أن استحداث منصب نائب القائد العام لا يدخل ضمن صلاحيات حفتر، مشددًا على أن أي تعيين في قمة هرم المؤسسة العسكرية يجب أن يصدر بقرار من المجلس الرئاسي مجتمعًا.
أما رئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، فبعث برسالة إلى البعثة الأممية أكد فيها رفضه "الإجراءات الأحادية" لمجلس النواب، واعتبرها خرقًا صريحًا للاتفاق السياسي. وطالب البعثة بتسجيل الاعتراض رسميًا في تقاريرها وحث الأطراف الليبية على الالتزام بخريطة الطريق والمسار التوافقي. كما وجّه رسالة مماثلة إلى رئيس البرلمان عقيلة صالح، دعا فيها إلى التراجع الفوري عن القرارات والعودة إلى الحوار المشترك.
بدورها، أعربت اللجنة التسييرية لبلدية بنغازي في المنطقة الغربية عن رفضها لما وصفته بـ"نهج التوريث العسكري" بعد تكليف صدام حفتر بمنصب نائب والده خليفة حفتر. وقالت اللجنة في بيان إن هذا القرار "لا يقوم على أي أساس شرعي أو وطني، ويمثل تكريسًا لتحويل المؤسسة العسكرية إلى ملكية عائلية".
وحذرت من أن الخطوة تمثل انحرافًا خطيرًا عن مسار لجنة "5+5" لتوحيد المؤسسة العسكرية، وتشكل تهديدًا للعملية الدستورية والانتخابية، وتقويضًا لجهود بناء جيش وطني محترف يخضع لقيادة مدنية شرعية.
خالد حفتر: الرجل الثاني بعد شقيقه
برز خالد حفتر متأخرًا نسبيًا، إذ تولى في أواخر عام 2021 قيادة اللواء 128 بعد أن أعيدت تسميته إلى "لواء حمزة بن عبد المطلب"، قبل أن يُرقّى إلى رتبة فريق في تموز/يوليو 2023 ويُعيّن رئيسًا لأركان الوحدات الأمنية، ليصبح الرجل الثاني بعد شقيقه. وقد ازدادت مكانته مع استقباله شخصيات عسكرية روسية، بينها نائب وزير الدفاع يونس بك يفكيروف، خلال زيارته إلى بنغازي.
عادة توزيع الأدوار:
الفريق عبد الرزاق الناظوري، أحد أبرز الضباط الذين رافقوا حفتر منذ "عملية الكرامة"، نُقل إلى منصب مستشار الأمن القومي بعد أن شغل رئاسة الأركان لسنوات. القرار، الصادر عن مجلس النواب، مثّل تخفيفًا واضحًا لدوره في المؤسسة العسكرية. ورأت أوساط محلية ودولية أن هذا الانكفاء جاء بالتزامن مع صعود نجلي حفتر إلى مفاصل القيادة الفعلية.
وبهذا ينضم الناظوري إلى قائمة من الأسماء التي طالتها سلسلة التغييرات داخل معسكر حفتر، وشملت عددًا من كبار الضباط الذين تراجع حضورهم في شرق ليبيا في الآونة الأخيرة.
فقد جرى تعيين اللواء عبد السلام الحاسي، الذي شغل لسنوات قيادة القوات الخاصة، نائبًا لصدام في قيادة القوات البرية، فيما أُبعد اللواء محمد المنفور عن قيادة القوات الجوية. كما نُقل اللواء فوزي المنصوري، أحد أبرز قادة حرب طرابلس، إلى مهام ثانوية في الجنوب، وأُقيل العقيد حسن الزادمة مطلع العام من قيادة اللواء 128 مشاة ليُعاد تعيينه في منصب أدنى تحت إمرة صدام حفتر.
من اللواء 106 إلى نائب القائد العام
صدام حفتر برز اسمه منذ عام 2014 بقيادته للواء 106 مجحفل، ثم تولى قيادة "لواء طارق بن زياد"، لينتقل تدريجيًا من قائد وحدة نخبوية موالية للعائلة إلى رأس هيئة أركان القوات البرية. هذا الصعود السريع أثار مخاوف من تضخم نفوذه داخل الجيش وتغوّل دوره السياسي، خاصة مع سيطرته على محاور إستراتيجية تشمل الهلال النفطي وأجزاء من الجنوب.
وقد رسّخ صدام نفوذه عبر وحدات عملياتية في الجنوب والوسط، ليتدرج سريعًا ويتقلد منصب نائب القائد العام بعد تعديل القانون. خطوة أثارت عاصفة من الانتقادات في الغرب الليبي ووصفت بأنها "تثبيت لهيمنة العائلة" على أعلى منصب عسكري. في المقابل، يرى أنصاره فيه "الوجه الجديد للجيش وقائدًا قادرًا على مواكبة الملفات الأمنية الإقليمية".
ازدواجية الشرعية: البرلمان مقابل المجلس الرئاسي
هذه التعيينات أعادت الصراع القانوني إلى الواجهة. فالمجلس الرئاسي في طرابلس يتمسّك بصفته "القائد الأعلى للجيش"، ويرى أن أي قرارات تخص المناصب العليا يجب أن تصدر عنه. بينما يعتبر البرلمان أن ولايته التشريعية تخوّله تعديل القوانين وتسمية القيادات، خصوصًا بعد "انتهاء ولاية" الرئاسي. لكن في ظل غياب محكمة دستورية أو آلية تحكيم دستورية يجعل النصوص مجالًا لتأويلات متناقضة، ويُعمّق الانقسام.
انعكاسات أمنية وسياسية
يذهب مراقبون إلى أن تعيين أبناء حفتر في مواقع عسكرية عليا يعمّق الشرخ داخل المؤسسة العسكرية الليبية، ويجعل عملية توحيدها تحت سلطة مدنية جامعة أكثر تعقيدًا. فالقوات التي يقودها صدام وخالد تسيطر على الهلال النفطي وأجزاء واسعة من الجنوب، ما يمنح سلطات الشرق ورقة ضغط قوية على مستوى السياسة والاقتصاد. ويثير هذا التمكين العائلي مخاوف جدية لدى خصوم حفتر، الذين يحذرون من مخاطر "التوريث العسكري" وعسكرة المشهد السياسي، بما قد يرسّخ حكمًا عائليًا يصعب تفكيكه في المستقبل.
يرى محللون أن تعيينات حفتر الأخيرة تعكس مسارًا يقوم على ترسيخ الأمر الواقع، حيث تواصل العائلة تعزيز قبضتها العسكرية مع إتاحة مساحة شكلية لبعض القيادات الأخرى لإظهار التعددية
البُعد الإقليمي والدولي
إقليميًا، ينظر بعض الداعمين إلى التغييرات باعتبارها تعزيزًا لـ"الاستقرار القسري" في شرق البلاد، بينما تتحفّظ قوى أخرى خشية عرقلة مسار لجنة "5+5".
دوليًا، تبدي الأمم المتحدة والدول الغربية قلقًا من استمرار الانقسام العسكري، مع التأكيد على أن أي إعادة الهيكلة يجب أن تكون جزءًا من تسوية سياسية شاملة، لا خطوات أحادية الجانب.
سيناريوهات مقبلة
يرى محللون أن تعيينات حفتر الأخيرة تعكس مسارًا يقوم على ترسيخ الأمر الواقع، حيث تواصل العائلة تعزيز قبضتها العسكرية مع إتاحة مساحة شكلية لبعض القيادات الأخرى لإظهار التعددية. وفي المقابل، لا تتجاوز العلاقة بين الشرق والغرب مستوى التفاهم الوظيفي المحدود، أي الحفاظ على تنسيق أمني ظرفي دون المضي في أي دمج فعلي للمؤسسات العسكرية.
هذا المشهد يفتح الباب أمام تصعيد سياسي وقانوني متوقع، إذ قد يسعى المجلس الرئاسي وحلفاؤه في الغرب إلى نزع الاعتراف الدولي بهذه الترتيبات. ومع ذلك، تبقى هناك نافذة لتسوية شاملة، إذا ما جرى ربط ملف إعادة هيكلة الجيش بخارطة الانتخابات المقبلة والترتيبات الاقتصادية التي تفرضها الحاجة الملحة لإدارة الموارد الليبية.
مستقبل الجيش بين التوريث والانقسام
باتت عائلة حفتر في قلب المؤسسة العسكرية الليبية. وبينما يصف أنصارهم ذلك بـ"إعادة الهيكلة ومأسسة القيادة"، يرى خصومهم أنها "توريث عسكري" يُعزّز الانقسام. وما بين القانون والواقع، يظل مستقبل الجيش الليبي مرهونًا بقدرة الأطراف على إنتاج صفقة تُوازن بين نفوذ القوى المسلحة، ومتطلبات الدولة المدنية، وحاجة البلاد إلى وحدة مؤسساتية تنقذها من دوامة الانقسام.