06-أغسطس-2015

صلاة في أحد شوارع باريس (Getty)

لا يمكن تناول الواقع الاجتماعي ــ الاقتصادي والسياسي الفرنسي اليوم من دون العودة إلى معضلة رئيسية، تتمثّل بإشكالية التعليم الديني في البلاد. معضلة تتعلّق بشكل أو بآخر ببنى المجتمع الفرنسي ونشأتها وتطوّرها لتواكب هيكلية الدولة العلمانية الحديثة.

ومما لا شكّ فيه أنّ الدين الاسلامي يستحوذ على أولوية تفوق الاهتمام الذي يوليه الفرنسيون، شعبًا ونظام حكم، لباقي الأديان السماوية، في ظلّ تشابك كبير بين العلمانيين والمحافظين يطفو على السطح، بعد أحداث شارلي ايبدو خاصة، وتزايد الاحتقان الذي فرضه غياب الاندماج الاجتماعي للمهاجرين. هذا إضافة إلى بروز ميول جهادية لدى بعض الأصوات الإسلامية، تقابلها طبيعة إسلاموفوبية تجمع يساريين ويمينيين، علمانيين وكاثوليكيين محافظين.

 يستحوذ الإسلام على أولوية تفوق الاهتمام الذي يوليه الفرنسيون لباقي الأديان السماوية

والمتابع للقطاع التعليمي في فرنسا، يمكنه ملاحظة تنامي ظاهرة رفض الطلاب المسلمين وأولياء أمورهم لتدريس المسيحية في المرحلة الابتدائية، إذ يرون في ذلك خطرًا يصل إلى حدّ التتنصير. كما يشكّل تدريس مواد متعلّقة بالمحرقة النازية ونظرية النشوء والارتقاء موضوعًا جدليًّا، عادةً ما يقابله المسلمون بالرفض القاطع أو السخرية والنكتة.

فرنسة الإسلام لا أسلمة فرنسا

يجد الناظر في أحوال المسلمين أنَّ لهم في فرنسا منظماتٍ مُتعددةً، والتي حاولت الحكومة الفرنسية أن تجعلَها تحت مظلة واحدة. قام نيكولا ساركوزي، عندما كان وزيرًا للداخليَّة، في حكومة الرئيس الأسبق جاك شيراك الثانية، بتأسيس المجلس الإسلامي الفرنسي في كانون الأول/ديسمبر 2002  ولكن سرعان ما أدركت الحكومة الفرنسيَّة نشاطَ المجلس الكثيف، الذي شمل العديد من الأمور الإسلاميَّة، مثل بناء المساجد، وتدريب الدُّعاة، وتنظيم لقاءات بين الدُّعاة والقيام بتنظيم رحالات الحج والعُمرة، وذَبح الأضاحي في عيد الأضحى، وإصدار الشهادات، التي تؤكد موافقة الأطعمة للشريعة الإسلامية، مما دفع دومينيك فيليبان، الذي خَلَفَ ساركوزي، إلى تأسيس إدارة لتنظيم عمليَّة تمويل المساجد، وتدريب الأئمَّة على إثر التصريح بأنَّ 75% من الأئمة غير فرنسيين، والبالغ عددهم 1200 إمام، وأنَّ 33% منهم لا يتكلمون الفرنسيَّة، وكثير منهم يَتِمُّ توجيه المساعدات إليهم من الجهات الخارجية.

ما دفع فيليبان وساركوزي إلى هذه السياسية، هو الرَّغبة في السيطرة على النُّمو الإسلامي، وإيجاد ما أسماه ساركوزي بالإسلام الفرنسي، لا الإسلام في فرنسا. وفي مقابل تلك "السياسة الجمهورية" توجّهت الأصوات الإسلامية في فرنسا إلى انتهاج نظام اجتماعي توافقي من أجل الحفاظ على التواجد الإسلامي بشكله المؤسساتي والرسالي من دون التعرّض إلى مبادئ الدولة العلمانية.

يعتقد باحثون أنّ أبرز التحديات التي تواجه الحضور الإسلامي بفرنسا تتمثل في إشكالية تربية وتأطير الشباب المسلم والمحافظة على هويته متعددة الأوجه، من دون إغفال المسارات التي تجذب الشباب نحو التطرف والانغلاق أو نحو الانحراف والضياع ورد الاعتبار للتأطير العائلي.

في 2002 كان 75% من الأئمة البالغ عددهم 1200 إمام غير فرنسيين وكان 33% منهم لا يتكلمون الفرنسيَّة

وتعتبر قضية المساجد والجمعيات الدينية الإسلامية من القضايا الهامة التي تستأثر بالاهتمام في أوساط المسلمين بفرنسا، وكذلك، باهتمام السياسيين والإعلاميين والأكاديميين وباقي مكونات المجتمع الفرنسي. وترافق قضية المساجد إشكالات عديدة، من أبرزها قلة دور العبادة الإسلامية، وغياب سلطة دينية يمكن أن تضطلع بدور مشابه للكنيسة عند المسيحين، وإشكالية تكوين الأئمة والأطر الدينية الإسلامية، وإشكالية تمويل المساجد والجمعيات الدينية، وإشكالية تمثيلية المسلمين داخل المساجد وفي المؤسسات والهيئات التي تعنى بتدبير شؤون الإسلام بفرنسا.

إدارة المساجد

غالبًا، تدار المساجد في فرنسا من خلال جمعيات دينة إسلامية تؤسس لهذا الغرض، وتخضع لقانون اللائكية "العلمانية" الفرنسية الشهير الصادر في كانون الأول/ديسمبر 1905. هذا القانون يسمى كذلك بقانون "فصل الكنيسة عن الدولة" ويعد بمثابة التربة التي ينمو فوقها كل تنظيم ديني بفرنسا، والدعامة الأساس لعلاقة الدولة بالأديان. بموجب هذا القانون تضمن الجمهورية الفرنسية حرية العقيدة لجميع المواطنين، لكنها في الوقت ذاته لا تمول ولا تتبنى أي دين، فالدولة لا دين لها.

على أنّ المساجد ودور العبادة لا تمثّل وحدها عائقًا أمام إرساء علاقة جيدة بين المحافظين والعلمانيين، إذ تبرز قضية حظر الحجاب منذ العام 1989 كمادة جدل كبير ينظر إليها الفرنسيون بنوع من الارتياب. وكان ليونيل جوسبان قد طالب في تلك السنة بحظر الحجاب وأعادت اللجنة التي شكّلها لمتابعة القانون الأسباب إلى أنّ الخلفية الجمهورية اللائكية للدولة لا تسمح بظهور الرموز الدينية في الأماكن العامة إضافة إلى اعتبار الحجاب "رمزًا لاضطهاد المرأة وعدم تحررها". أما في المدارس فقد حظر فرانسوا بايرو سنة 1994 الحجاب في المدارس، لكن سرعان ما ألغى مجلس الدولة هذا القانون سنة 1995.

ولاحقًا، في عهد الرئيس جاك شيراك تم تشكيل لجنة لبحث القضية، والتي كان أعضاؤها العشرون من العلمانيين المتشددين الرَّافضين للتعددية. قدمت مشروعَ قرار في كانون الأول/ديسمبر 2003 يَمنع الرُّموز الدينية بين التلاميذ، إضافةً إلى إقرار العُطلات الدينية المتمثلة في ضمان عُطلة واحدة رسمية للمسلمين، ومثلها لليهود، وإحدى عشرة عطلة للمسيحيين، ولكن المرجعيات التشريعية والتنفيذية الفرنسية أهملت هذه الاقتراحات، وتبنت حظر الرموز الدينية، ومنها الحجاب.