12-أكتوبر-2017

لقطة من فيلم The Cabinet of Dr. Caligari (1920)

التعبيرية مذهب فني يستهدف، في المقام الأول، التعبير عن المشاعر أو العواطف والحالات الذهنية التي تثيرها الأشياء أو الأحداث في نفس الفنان، ويرفض مبدأ المحاكاة الأرسطية، إذ يحذف صور العالم الحقيقي بحيث تتلاءم مع هذه المشاعر والعواطف والحالات، وذلك عن طريق تكثيف الألوان، وتشويه الأشكال، كما يعمل على التنظيم والبناء من جديد للصورة الرومانسية، لكن في أسلوب تراجيدي يتسم بما تعانيه الأجيال في العصر الحديث من قلق وأزمات.

سعى الفنانون التعبيريون نحو التجرد والتشويه، وبالتالي تجاوز المظهر اليومي الواقعي لتصوير العالم وليس على نحو موضوع

كان تأثير المدرسة التعبيرية واضحًا على السينما الألمانية بشكل ملحوظ في الفترة من العقد الأول والثاني من القرن العشرين، إذ تأثر المخرجون الألمان بالتعبيرية في الفن التشكيلي والأدب والمسرح، وكانت هزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى بالغ الأثر في نفوس العاملين في مجال الفن عمومًا، وبدأ يتكون اتجاه مختلف في نفس الفنان الألماني بشكل كبير.

من بين كل الحركات التي ظهرت خلال القرن الأول من السينما العالمية، يمكننا تمييز عدد قليل منها كحركات ذات نظرة محددة كما كان عليه الأمر مع الأفلام التعبيرية الصامتة التي تم إنتاجها في السنوات المتعثرة لأولى محاولات ألمانيا لتأسيس حكومة ديمقراطية -أي جمهورية فايمار- ووفق العديد من المراقبين كانت الصور الصارمة لأفلام أيقونية مثل "كابينة الدكتور كاليغاري" 1920 أو "متروبوليس" 1927 لا تعبر عن فترة زمنية في بلد فحسب، بل كذلك عن الأساس الجوهري للصناعة الأولى للأفلام.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم كياروستمي الأخير: "أربعة وعشرون إطارًا" نحن أبطالها

إن الفنان التعبيري لا ينقل موضوعًا جماليًا بل ينقل المشاعر العارمة إزاء موضوع معين، وهو لا يلجأ إلى العقل بل يلجأ إلى العاطفة، وأفضل طريقة يستطيع أن يفهم بها الإنسان المذهب التعبيري بوصفه حركة فنية هي أن ينظر إليه بوصفه معارضًا لمذهب الانطباعي، ففي حين تكون الحركة في الاتجاه الانطباعي من الطبيعة إلى الفنان نجد أن المصور التعبيري يسقط أحاسيسه الباطنية إلى صورة معاناته وأحلامه، وعواطفه.‏‏

التعبيرية ترتكز على أغوار النفس الإنسانية، والانطباعية اعتمدت على الإحساسات البصرية وعلى تحليل الألوان، أما التعبيرية فتنبع من انفعال باطني وتوتر داخلي، والفرق بين التعبيرية والرومانسية -بينهما أوجه شبه كبيرة- فهما معًا يعدان نزعة مضادة للواقع، وهما معًا يعتمدان على الإسقاط، وهما يرتكزان على الأحلام وعلى الخيال، وهما أخيرًا انتصارًا للذات ضد الموضوع.

أما من حيث الاختلاف، فإن التعبيرية تختلف عن الرومانسية في أنها لا تلوذ بالهرب والتقوقع داخل الذات أمام ما يهدد الإنسان، بل على العكس من ذلك تواجه الخطر بكل شجاعة، وقد رفضت الواقع بكل حماسة؛ وذلك في سبيل تشييد ملامح جديدة للإنسان المعاصر.

لقد ولدت التعبيرية من الناحية التاريخية منذ القرن الماضي في ألمانيا، حيث التهاويل والأشباح والحياة العارمة بالتخيلات الغريبة، وقد كان روادها الأوائل ينتمون في الواقع إلى المناطق المتاخمة لألمانيا مثل فان غوخ الهولندي، ومونك النرويجي، وكوكوشكا الروسي، وأنسو البلجيكي، وفي عام 1905م تأسست جماعة الجسر في درسدن -من أشهر مؤسسيها نولد- وكان أسلوب أصحابها يتلخص في استعمال الألوان الصارخه مع تحريف الأشكال بدافع التعبير القوي.

يعتبر الفنان فان غوخ أول من مهد للتعبيرية، غير أنها لم تظهر بوصفها مدرسة إلا عند الفنان النرويجي إدفارت مونك

يعتبر الفنان فان غوخ أول من مهد للتعبيرية، غير أنها لم تظهر بوصفها مدرسة إلا عند الفنان النرويجي إدفارت مونك. تأثر مونك في بداية حياته الفنية بالتأثيرية الجديدة وبالوحشية، وبفن فان غوخ وجوجان على الأخص، غير أنه ركز على القيم التعبيرية في أعماله، فأنتج مجموعة كبيرة من اللوحات المرسومة والمحفورة أهمها لوحته "الصرخة" وقد خصص له متحف خاص في أوسلو يحتوي على ألف لوحة من أعماله.

ومن أهم فروع التعبيرية، "جماعة الفارس الأزرق" التي تأسست في ميونيخ، وقد اتخذت من لوحة صغيرة لمؤسس الجماعة كاندنسكي شعارًا لها، وقد اشترك معه فرانز مارك ثم بول كلي، وكان هدف الجماعة التعريف بالحركة التعبيرية حتى استطاعوا جعلها من أقوى الحركات الفنيه في ألمانيا، وتهدف هذه الحركة حسب تعبير كاندنسكي في كتاب "الروحية في الفن" إلى التعبير عن الرغبات الباطنية بالطريقة والأسلوب الذي ترتئيه هذة الرغبات.

وانفرطت "جماعة الفارس الأزرق" عام 1914 بموت مارك وانضمام كاندنسكي وبول كلي إلى الباوهاوس، وهي مدرسة أسسها المهندس والتر غروبيوس عام 1919 في مدينة فايمر، وهدفها توحيد الفنون التشكيلية مع الفنون التطبيقية وفن العمارة، ثم انتقلت هذه المدرسة عام 1929 إلى ديوي، ومن أهم المدرسين في الباوهاوس فينيجر، وبول كلي، وشليمير، وكاندنسكي، ثم بعد ذلك انتقلت المدرسة إلى أمريكا عام 1938، وعلى هذا فإن التعبيرية لم تعد منتظمة في جماعة معينة، بل ذهب كل فنان في اتجاه خاص ولكن هناك مذاهب جديدة تفرعت عنها، كالمدرسة الحقيقية والواقعية السحرية.

لوحة إدوارد مونك "الموت في غرفة المرضى"

 

لوحة للفنان فان غوخ "على أعتاب الجلود"

سعى الفنانون التعبيريون نحو التجرد والتشويه، وبالتالي تجاوز المظهر اليومي الواقعي لتصوير العالم وليس على نحو موضوعي، بل كما يراه الفنان، مع الأخذ في الاعتبار السياق التاريخي الذي انبثقت عنه التعبيرية الألمانية، من هذه الأحداث المذبحة البشعة للحرب العالمية الأولى والهزيمة المخزيه لألمانيا، والاختلال الاجتماعى لجمهورية فايمار، والتضخم المالي المتصاعد، فنجد تداعيات ذلك على الفنانين الألمان، إذ تحولت نظرتهم نحو رؤية العالم بشكل مختلف، رؤية كلها مشاعر ذعر وتشاؤم صارخ نحو الحاضر والمستقبل.

اقرأ/ي أيضًا: تود هاينز: قد تكون العزلة أحيانًا من شروط الإلهام

نعود إلى الفيلم الذي يعتبر من أهم أفلام الاتجاة التعبيري الألماني هو فيلم "كابينة الدكتور كاليغاري" للمخرج روبرت وين عام 1919. كانت الديكورات في هذا الفيلم ذات دلالات قوية على تشوه العالم الطبيعي من وجهة نظر صانع الفيلم، والفنانون الذين قاموا بتصميم الديكورات هم: هيرمان وارم، ووالتر رييمان، ووالتر رهريج، وكانوا فنانين تعبيريين متمرسين، واشتركوا في نشر مجلة "دير ستر" التي كانت مخصصة للترويج للفن التعبيري.

تظهر الحوائط في هذة الصورة بشكل مائل وغير مستوٍ، تصورًا من صاحب العمل أن العالم بات غير مستقر وغير متزن، وفي حالة من عدم الاستقرار، وأن العالم أقرب إلى التشوه، كما تظهر ردود الأفعال على وجه الشخصيات بشكل مبالغ فيه ويوحي بالجو المسرحي.

كان فيلم "The Cabinet of Dr. Caligari" ملهمًا لأنه استطاع تجاهل التقليد وكسر القواعد ونجح في تقديم العالم في صورة غير موضوعية

كان هذا الفيلم ملهم بالنسبة لمورناو، وأيضًا كان طريقًا مسدودًا، فكان ملهمًا لأنه استطاع تجاهل التقليد وكسر القواعد ونجح في تقديم العالم في صورة غير موضوعية، وكان طريقًا مسدودًا لما بعده لأنه قدم رؤية شخصية وذاتية.

لم يكن لهذا الاتجاة حظًا خارج ألمانيا، حيث ظهر واختفى داخل ألمانيا، ولم يستمر طويلًا، إذ أن عدد الأفلام في هذا الاتجاة لا تتجاوز 30 فيلمًا، لكن تأثر الكثيرين بطريقة هذا الاتجاة في استخدام الضوء والظل، مثل أفلام من نوعية نوار التي تعتمد على الضوء والظل، في إظهار الحالة النفسية للشخصيات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

12 فيلمًا مرشحًا لأوسكار 2018 في فئة الأفلام الأجنبية

فيلم "Alphaville".. وصناعة الخيال العلمي المختلفة عند جان لوك جودار