19-أغسطس-2020

وقفة غاضبة أمام سفارة الإمارات في تونس (Getty)

كان يمكن لإشهار الزواج السري الذي يجمع كل من حكّام إسرائيل والإمارات أن يتأخر لفترة لاحقة، ذلك أن عملية ترسيخ أركانه كانت تطبخ على نار هادئة، تهدف لنقله من مرحلة التعاون الاقتصادي الوثيق إلى مرحلة التحالف الأمني العميق، لولا المأزقان الانتخابيان لكل من ترامب ونتنياهو، الأمر الذي تطلب توظيف مفاعيل ذلك الإشهار ورفعه إلى مصاف الاتفاق السياسي التاريخي، كي يصب في صالح كل من الحليفين الحميمين لمحمد بن زايد.

تفتق العقل المغامر لحكّام الإمارات بالاستعانة بالعدو التاريخي للعرب في محاولة منهم لخرق قواعد الحس السليم

أدت الطريقة الفاشلة التي أدار بها ترامب جائحة كورونا إلى فقدان آلاف الأمريكيين لوظائفهم وأشغالهم، مما أدى لتراجع شعبيته في استطلاعات الرأي بفارق 8 نقاط عن منافسه الديمقراطي جو بايدن، في مناطق كانت تعد إلى وقت قريب معقلًا لأنصار الحزب الجمهوري. الأمر جعله يركز على  إعادة تفعيل العلاقة بينه وبين جماعات "الإنجيليين الصهاينة"، تلك العلاقة التي اهتزت عقب تردده في منح نتنياهو الضوء الأخضر لضم الأراضي الفلسطينية التي ورد ذكرها في خرائط صفقة القرن، نتيجة للخلافات التي عصفت بها جراء القراءات المتضاربة لتطبيق تلك الصفقة بين أركان الائتلاف الإسرائيلي الحاكم (نتنياهو، غينتس، زعماء المستوطنين).

اقرأ/ي أيضًا: اتفاق الإمارات وإسرائيل: في معنى الإعلان عن المعلن

في ظل هذا الوضع المشحون بالخسارة لكل من ترامب ونتنياهو طُلب من محمد بن زايد التقدم لإنقاذ الموقف، فاتفاق السلام المزعوم هذا لم يكن سوى محاولة لإرضاء لوبي الإنجليين المتصهينين، الذي تقوم آراء أعضائه العقائدية على تفسير متطرف وحرفي لإحدى نبوءات العهد القديم التي تبشّر بقيامة المسيح الثانية لنشر المعتقد المسيحي على أرض إسرائيل. فوقع الاتفاق على أن تأخير عملية الضم قليلًا مقابل تعظيم منافع إسرائيل في الإقليم لن يجعل عملية الضم سهلة وحسب، بل ستسهل العملية وترفعها إلى مستوى العمل السيادي الاسرائيلي الخالص، دون أية اعتبارات للفلسطينيين وحقوقهم.

ما كان لهذا الاتفاق المشؤوم أن يرى النور لولا التغير الدراماتيكي في طبيعة التفكير الإماراتي الذي قرّر أن يعيد اكتشاف خريطة الأعداء الوجوديين لأسرته الحاكمة، وأن يفشل في تحديد الوسائل المناسبة لمواجهة المخاطرة المحتملة عن سلوكهم العدواني. فبدلًا من التفكير العقلاني بمواجهة مخاطر النفوذ الإيراني بالاعتماد على الذات، كما عبر بناء شبكة واسعة من التحالفات العربية والدولية، تفتق العقل المغامر لحكّام الإمارات بالاستعانة بالعدو التاريخي للعرب في محاولة منهم لخرق قواعد الحس السليم، وجرّ الناس لتصديق فحوى الحكمة التي تقول بإمكانية تحول عدو العدو إلى صديق. فكيف لإسرائيل العدوانية أن تصبح حمامة وادعة للسلام وهي التي لا توفر وسيلة لإحباط حلم الفلسطينيين في الدولة المستقلة صاحب السيادة والسؤدد على أرضها إلا وتمارسها؟

لا ينطلق الموقف الفلسطيني المصر على رفع التطبيع الإماراتي إلى مصاف الخيانة العظمى، من موقف عاطفي يستند إلى مشاعر الغضب الذي فجّرها قيام أحد أبناء البيت العربي بانتهاك واحدة من أهم قواعد التضامن القائم على الإيمان بوحدة المصير المشترك، بقدر ما ينطلق من جملة الخسارات الفلسطينية التي سيفرضها ذلك التطبيع عبر وقائعه الميدانية على الأرض، فالتطبيع الاماراتي هو المعادل الموضوعي لتشريع الاحتلال والاحتفاء به، وقد نجح في إسقاط إحدى أوراق القوة التي كان يتمسك بها المفاوض الفلسطيني في نضاله من أجل انتزاع حقوق شعبه في الحرية والاستقلال. فما الذي سيردع إسرائيل بعد الآن، وهي ترى حلمها في الاندماج في المنطقة ومن ثم التصدي لقيادتها يتحقق دون أن تضطرها الوقائع بالاعتراف بالحقوق المشروع لفلسطين؟

في اتفاق "إبراهام" التاريخي أثبت المُطبّع الاماراتي قدرة فائقة في استسهال خيانة فلسطين وشعبها، وفشل فشلًا ذريعًا في تسويق تلك الخيانة وتبريرها

في اتفاق "إبراهام" التاريخي أثبت المُطبّع الاماراتي قدرة فائقة في استسهال خيانة فلسطين وشعبها، وفشل فشلًا ذريعًا في تسويق تلك الخيانة وتبريرها، فالوعد الذي حصل عليه محمد بن زايد فيما يتعلق بإيقاف قرار ضم الأراضي الفلسطينية لم يمنحه الظهور بمظهر البطل القومي، لأن ما بُني على باطل يظل باطلًا. فالراسخ في مشروع الضم المتفرع عن صفقة القرن هو طابعه الاستعلائي الذي يرى فلسطين ويتجاهل الاعتراف بحقوق أهلها، لذا فإن المفاخرة بتعطيله مؤقتًا لا يعني سوى الاعتراف ضمنًا بقوة آثاره القانونية، المتأتية من رغبات القوة الإسرائيلية الغاشمة التي تصر على أن تجعل من جبروتها معيارَ كل حق وصواب سياسي. فالأصل في اجتراح البطولة ليست المطالبه بتجميد ما هو غير شرعي، بل الإصرار الكلي والحازم على إلغائه وشطب مفاعيله من ميدان التداول السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: اتفاق "أبراهام".. تطبيع علاقات أم إعلان عن تحالف قائم بين الإمارات وإسرائيل؟

الاتفاق بلغة الربح هو ربح صافٍ لاسرائيل التي كسبت رهان تلزيمها أمن الخليج بمعونة حلفاء سياسيين لا حول لهم ولا وزن في ميزان القوة العسكري. أما بلغة الخسارة فإنها تتجاوز خيانة فلسطين لخيانة الشعوب العربية قاطبة، تلك الشعوب التي قرّرت الخروج من أجل حريتها، وقرّر محمد بن زايد إعادتها إلى حضيرة الاستبداد العربي، وإلا ما تفسيرنا لإصراره على قيادة الجبهة المضادة لتلك الثورات، تارة عبر تسهيله الإطاحة بالديمقراطية المصرية الوليدة وسعيه المحموم لتثبيت حكم السيسي كبديل بائس لها، وتارة أخرى عبر إصراره المستميت على إعادة تأهيل سفاح دمشق، بكل الطرق الممكنة، كي يظل المثل السوري شاهدًا على فداحة الثمن، الذي يمكن للشعوب العربية أن تدفعه في حال قررت الخروج على مستبديها؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

اتفاق التطبيع الإماراتي.. المصالح والفرص من وجهة نظر إدارتي نتنياهو وترامب

بعد اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي.. كيف ستبدو الخطوة القادمة؟