16-أكتوبر-2018

لا يحظى ضحايا الإرهاب السعودي في اليمن بتضامن كالذي يحظى به خاشقجي (Getty)

في حين ينشغل العالم منذ حوالي أسبوعين، بقضية الصحفي والكاتب السعودي جمال خاشقجي، الذي اختطف من داخل سفارة بلاده في إسطنبول، ويواجه مصيرًا مجهولًا، فإن الانتهاكات السعودية في اليمن، التي تحظى بشعبية أقل، لم تتوقف.

يدخل المال السعودي في قلب هذه الازدواجية في الموقف العام من قضيتي خاشقجي واليمن، فعشرات الأطفال الذين قتلوا في صعدة قبل أشهر، لا يستحقون أي إدانة

ليست الجرائم اليومية، التي يرتكبها التحالف السعودي في مدن مثل صنعاء وصعدة والحديدة، أقل قسوة وبشاعة مما حدث مع خاشقجي، لكن التعاطف معها والتحرك من أجلها، ظل لأسباب مجهولة، محدودًا دائمًا، على الرغم من الأخبار المتداولة عن مجاعة وشيكة جدًا في اليمن، قد يروح ضحيتها ملايين المدنيين، وعن قتلى في صفوف طلاب المدارس والمحتفلين في الأعراس والمعزين في المآتم.

عندما صرح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مهددًا السعودية، إذا ثبت تورطها بمقتل خاشقجي، بـ"عقاب وخيم"، أعلن بشكل واضح أن هذه التهديدات لا تشمل وقف تصدير الأسلحة أو المساعدات اللوجستية، التي تقدمها بلاده للسعودية، وقد كانت هذه التصريحات بمثابة بيان واضح، بأن "اليمن لا يعنينا"، بالنظر إلى أن معظم هذه الأسلحة تُستخدم ضد المدنيين هناك.

قد لا يكون ثمة تفسيرات كثيرة لهذا التجاهل، فالحرب غالبًا ما تكون مربحة، خاصة بالنسبة لدول يعتمد جزء كبير من اقتصادها على تصدير الأسلحة. ولقد وضح ترامب ذلك بصراحة، عندما قال إننا لا نريد أن نعاقب أنفسنا أثناء معاقبة السعودية.

اقرأ/ي أيضًا: صعدة ليست الأولى.. أبرز مجازر السعودية بحق الأطفال في اليمن

يدخل المال السعودي في قلب هذه الازدواجية في الموقف العام من قضيتي خاشقجي واليمن، وفي أساسات هذا التناقض، فعشرات الأطفال الذين قتلوا في صعدة، أثناء رحلة مدرسية قبل أشهر، لا يستحقون في منطق الدول المستفيدة من "عطاء" الرياض، نصف الضجة التي حظيت بها واقعة السفارة في إسطنبول. أما صناع القرار في دول مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، فقد وجدوا في قضية خاشقجي ملاذًا آمنًا، يستطيعون من خلاله أخيرًا نقد السعودية وتهديدها، من دون خسائر كبيرة، ومن دون تعطيل صفقات أسلحة رابحة.

لا تجوز المقارنة بين الضحايا، لكن الاحتجاج على هذه الازدواجية هو انحياز لكل ضحية، ورفض للمواقف التي تصدرها خارجيات الدول، وكأنها شركات ربحية، تخشى أن تخسر زبائنها بسب موقف هنا أو هناك. يطل ألترا صوت في هذه المقالة المترجمة عن مجلة ناشونال ريفيوز، على جزء من هذا التناقض، في حرب "اليمن المنسية".


يختفي صحفي سعودي يكتب لصحيفة واشنطن بوست، ثم يُرجح أنه قُتل. وتشير التقارير إلى أنه ربما تم تقطيعه بوحشية إلى أشلاءٍ  داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، فيما وُصف بأنه نفس أسلوب القتل في  فيلم "الخيال الرخيص" (Pulp Fiction) على يدِ الحكومة التي خدمها يومًا، وأصبحت هذه القضية بمثابة صيحة استنفار مدوية لوسائل الإعلام الغربية ضد بربرية ووحشية النظام السعودي. ابتداءً من الأسبوع الماضي.

وكان خاشقجي، وهو معارض سعودي يبلغ من العمر 59 عامًا، كان يدين سابقًا بالولاء للعائلة المالكة السعودية،  قد أعرب عن قلقه وخوفه على حياته أمام بعض زملائه، الذين أشاروا إلى أنه كان مقتنعًا بأن قيادة المملكة الجديدة في ظل حكم ولي العهد محمد بن سلمان أرادت قتله. لقد كانت هواجسه صحيحة؛ حيث شوهد للمرة الأخيرة في الثاني من تشرين الأول/أكتوبر، وهو يدخل القنصلية السعودية في إسطنبول.

يقول المسؤولون الأتراك إنه قُتل داخل القنصلية، وإنهم أخبروا المسؤولين الأمريكيين أن بحوزتهم تسجيلات صوتية ومرئية تُثبت تعرض خاشقجي للقتل داخل القنصلية. فيما أنكرت المملكة العربية السعودية أية صلة لها بالأمر وارتكابها لفعلٍ غير مشروع. لم يتمكن أحد، بما في ذلك خطيبته التركية، من التواصل مع خاشقجي منذ أن اختفى تمامًا.

ومنذ اختطافه، وجهت شركات غربية، ومن ضمنها مؤسسات إعلامية، اللوم إلى المملكة العربية السعودية من خلال اتهام حكومتها بارتكاب جريمة قتل وحشية، وتقليص حجم تعاملهم مع المملكة العربية السعودية. حسب تقرير قناة سي إن بي سي (CNBC)، الذي جاء فيه:

لن تشارك زاني مينتون بيدوز، رئيسة تحرير مجلة "ذي إيكونوميست" في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض، بحسب ما قالت المتحدثة الرسمية  لورين هاكيت عبر رسالة بالبريد الالكتروني.

وكتب أندرو روس سوركين، أحد مذيعي قناة CNBC والذي يعمل صحفيًا في مجال المال والأعمال بجريدة "نيويورك تايمز"، في تغريدة له إنه لن يحضر المؤتمر، قائلًا إنه "شعر بأسىً بالغ إزاء اختفاء الصحفي جمال خاشقجي والتقارير التي تشير إلى  مقتله".

بينا صرحت المتحدثة الرسمية إيلين ميرفي أن صحيفة نيويورك تايمز قررت أيضًا الانسحاب من هذا المؤتمر بصفتها جهة راعية إعلامية. وقالت صحيفة "فاينانشيال تايمز" في بيان إنها تُراجع مشاركتها في المؤتمر بصفتها شريكًا إعلاميًا.

أما دارا خسروشاهي، المسؤول التنفيذي الأول في شركة "أوبر تكنولوجيز" (Uber Technologies)، فبين في بيان إنه لن يحضر مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض ما لم تخرج للعيان مجموعة من الحقائق مختلفة تمامًا عما تُشير إليه التقارير الحالية.

اقرأ/ي أيضًا: مجزرة أبوظبي-الرياض مستمرة في اليمن.. بقنابل أمريكا "الذكية"

ألغت شبكة "سي إن إن" التلفزيونية (CNN) بدورها  شراكتها، وقالت إن مذيعيها ومراسليها لن يديروا حلقات النقاش من الآن فصاعدًا. وانسحبت أريانا هافينغتون من المؤتمر، واستقالت من المجلس الاستشاري. كما أحجم أيضًا باتريك سون شيونغ مالك صحيفة لوس أنجلوس تايمز عن حضور المؤتمر.

تزداد باطراد أعداد الشركات الضخمة ووسائل الإعلام التي تنأى بنفسها عن المملكة مع ظهور مزيد من الأدلة الدامغة، التي ورّطت أباطرة نفط الرياض في موت الصحفي البارز.

ولكن أين كانت صرخات الاحتجاج والإدانة تلك عندما أسقطت المملكة قنبلة على حافلة مدرسية يمنية في آب/أغسطس، ما أسفر عن مقتل 40 صبيًا تقل أعمارهم عن الحادية عشرة؟ أو عندما ألقى خطباء المساجد الممولة من قبل السعودية في أوروبا لسنوات خطبًا تروج للعقيدة السلفية الوهابية، خالقة بذلك بؤرًا للتطرف؟ أو عندما أرادت الحكومة السعودية ضرب عنق ناشطة تبلغ من العمر 29 عامًا بتهمة تشجيع التظاهرات الداعية لمنح المزيد من الحقوق للمسلمين الشيعة؟

إن كل حياة بشرية ثمينة، بما في ذلك حياة خاشقجي، ويستحق اختفاؤه واحتمالية اغتياله الاهتمام وإدانة مرتكبي هذه الجريمة؛  لكن الاهتمام المفاجئ، أو على الأقل إظهار الاستياء والجزع من تصرفات السعوديين - لذي حدث بعد فترة طويلة من تاريخ الإعدامات المضرج بالدماء، وجرائم الحرب، والإرهاب، والتوجهات المعادية لليبرالية، التي تنفث سمومها من تحت الواجهة الزائفة السطحية للثروة والإصلاح - هو في المقام الأول إشارة إلى نوع من التفضل (أي دعم قضية ما بشكل غير مجدٍ لسبب واحد فقط، وهو أن تُظهر للآخرين كم أنت شخص أخلاقي).

ليست الجرائم اليومية، التي يرتكبها التحالف السعودي في مدن مثل صنعاء وصعدة والحديدة، أقل قسوة وبشاعة مما حدث مع خاشقجي، لكن التعاطف ظل محدودًا 

يُعدّ أهم مثال على لامبالاة وسائل الإعلام إزاء تفشي الإرهاب الغاشم للنظام السعودي؛ هو صمتها النسبي حول الأزمة الإنسانية في اليمن، حيث لقي حوالي 16,200 مدني حتفهم منذ آذار/مارس 2015 كنتيجة مباشرة لحصار التحالف الذي تقوده السعودية. تسببت الكارثة التي صنعها البشر في حدوث مجاعة، وسميت بـ "الحرب المنسية" بسبب شح الاهتمام المسلط عليها من قبل وسائل الإعلام الغربية، على الرغم من الخسائر البشرية الكبيرة واستمرارها لفترة زمنية طويلة.

وبعد أسبوع من عملية قصف الحافلة المدرسية في صعدة، نشرت العديد من الوسائل الإعلامية -التي تشارك الآن في مقاطعة المملكة العربية السعودية في أعقاب اختفاء خاشقجي- مقالاتٍ افتتاحية "ردًا" على هجمات الرئيس ترامب على الإعلام. الرئيس ترامب -الذي تربطه علاقة ودية وثيقة مع ولي العهد محمد بن سلمان، والذي قال بالفعل إنه لن يوقف صفقات بيع الأسلحة الأمريكية إلى النظام السعودي- هو الملام على تمديد عهد الإرهاب من خلال تزويد السعوديين بوسائل لتحقيقه.

لكن الوسائل الإعلامية مسؤولة أيضًا عن انتقاء التصرفات غير المقبولة التي تستحق سخطها واهتمامها؛ اختاروا تجاهل كل البؤس الذي ألحقه النظام بشعبه وبالشعب اليمني (والعالم بأسره، بالفعل) وتشبثوا بقضية خاشقجي.

ليس صعبًا الاشتباه في أن العديد من وسائل الإعلام تتحدث عن القصة من أجل إحداث ضجة حول تسمية الرئيس ترامب لوسائل الإعلام بأنها "عدوة الشعب"، مع قيامها في الوقت نفسه بإبقاء معظم الأمريكيين جاهلين بجرائم الحرب التي تُستخدم أموال الضرائب التي يدفعونها لارتكابها.

إن "تضامن" وسائل الإعلام  الجديد مع  قضية خاشقجي، ودعوتها إلى تسليم قاتليه إلى العدالة، هي في ظاهرها قضية عادلة؛ لكن الكثير من دعوات ومناصرات الصحفيين لهذه القضية مبهمة وباهتة.
 

اقرأ/ي أيضًا:

مسؤول أممي: الأزمة الإنسانية في اليمن هي الأسوأ منذ نصف قرن

مخلفات الحرب.. آلاف المعاقين في جنوب اليمن