10-مايو-2019

عن الترجمة (Mitra)

لعلّه من السليم أن نردّد مع "شيخ المترجمين" محمد عناني قوله إن الترجمة ليس عليها من سيّد، وأن نقر معه باستحالة وجود ترجمة نهائية لأي نصّ كان، فترجمة النص ليست إلا وجهًا واحدًا من أوجه عديدة ممكنة لحياته. من هنا كان نقد الترجمة ومراجعتها وإعادتها عملًا مطلوبًا، للاستفادة من تجارب من سبق، واستجلاء اللحظة التاريخية التي ترجم فيها العمل، وما إذا كان يلزم إعادة الترجمة من أجل جمهور آخر من القراء وخدمة أغراض جديدة للنص المترجم في لحظة تاريخية مختلفة. فالترجمة في جوهرها عمليّة تتخلّق عبرها قيمة جديدة للنصّ، ولكل إعادة ترجمة حظّ من ذلك بحسب مقدار الاختلاف ومستوى الجدّة الذي تفترق فيه عن الترجمات السابقة.

ترجمة النص ليست إلا وجهًا واحدًا من أوجه عديدة ممكنة لحياته

وكثيرًا ما تحدث إعادة الترجمة للكتب الكلاسيكية والدينية، لشهرة الأولى ورغبة المترجمين في إلحاق أسمائهم بها، ولشيوع الثانية وكثرة الاختلاف في تأويلاتها بين المدارس المختلفة لأتباعها. وقد تحقق بعض الترجمات الجديدة نجاحًا مذهلًا على مستوى المبيعات، ولعل أشهر مثال على ذلك الترجمة الإنجليزية الحديثة لقصيدة (Beowulf) التي أنجزها شيموس هيني، الشاعر الإيرلندي الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2005، والتي حققت خلال عام واحد فقط بعد نشرها مبيعات تجاوزت 200 ألف نسخة. وإن كان هذا الرقم من المبيعات طفرة لم تتكرر كثيرًا، إلا أن ثمة ترجمات جديدة بالإنجليزية لأعمال كلاسيكية أخرى قد حققت نجاحًا مشابهًا، مثل الترجمة الجديدة لـ"جحيم" دانتي، والتي طبع منها 25،000 نسخة، وترجمة الكاتبة والصحفية الأمريكية كارولين ألكساندر للإلياذة، وهي أول امرأة تنشر ترجمة كاملة بالإنجليزية للقصيدة. كما نطالع ذلك أيضًا في العربية في ترجمات متعددة للكثير من الأعمال المهمّة والمكرّسة، ولعل أشهرها دون كيخوته والتي تتوفر للقارئ العربي بترجمات ثلاثة على الأقل، ورباعيّات الخيام التي نشرت كاملة بخمس ترجمات، وهي ترجمة أحمد النجفي، وعبد الحق فاضل، ومحمد الهاشمي، من العراق، وترجمة الشاعر المصري أحمد رامي، وهي الأكثر شهرة ربما، وترجمة إبراهيم العرّيض من البحرين، وأخرى للشاعر الإماراتي محمد صالح القرق، والعديد من الأمثلة الأخرى في الأدب والفلسفة.

اقرأ/ي أيضًا: الترجمة وخلق القيمة في عالم الأدب

وقد تكون إعادة الترجمة في أحيان أخرى أمرًا غير مرتبط بتجديد الكلاسيكيات وتقريبها للقارئ المعاصر- وبالتالي تحقيق مكاسب تجارية مستمرة لدور النشر، بل تكون نابعة من فشل الترجمة أو الترجمات السابقة، بعد أن يحكم الدارسون والنقاد بعدم أمانتها ودقتها، إما بسبب جهل المترجم بلغة النص الأصلي وثقافته، أو تحفّظه على ما ورد فيه من محاذير سياسية يخشاها هو أو الناشر، أو تابوهات اجتماعية ودينية. فإن كان العمل مهمًّا في المشهد الأدبي، فيجدر الإسراع إلى إعادة ترجمته، وبيان السبب الأساسي الذي دعا إلى إعادة الترجمة.

فهنالك الكثير من الكتب التي تصدر بترجمات "ذبابية"، على حد تعبير صقر أبو فخر، حيث يُنثر النص فيها كما ينتثر الذباب على بقايا الطعام، من مترجمين لا يفرقون كما يقول أبو فخر "الإمام محمد عبده عن المطرب محمد عبده أو إميل زولا عن زيت المازولا"، وذلك في انتقاد لاذع وساخر لترجمة كتاب "أمير المخدّرات: قصة حياة منزر الكسار" والذي كان مليئًا بالأخطاء المحرجة، ابتداء من الاسم "منزر" بدل "منذر"، و "مهمت علي" بدل "محمد علي"، ثم "مهمة علي"، و"جورج حبشي" وفي مواضع أخرى "حباش" بدل "جورج حبش" وغيرها من الأخطاء التي شكّلت فضيحة متكاملة الأركان في الترجمة، ما يجعل من إعادتها، وإهمال السابقة والتشهير بها واجبًا لا مناص منه.

ويحضرني هنا ترجمة أخرى غير أمينة اطلعت عليها مؤخرًا لرواية "The Sense of an Ending" لجوليان بارنز، بعنوانها العربي "الإحساس بالنهاية" للمترجم الأردني، الدكتور خالد مسعود شقير، والصادرة في العدد 389 (يونيو 2012). ضمن سلسلة "إبداعات عالمية" عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت.

شعرت منذ البداية أن في الترجمة خللًا ما، إذ ضعت في صفحاتها الأولى، فقررت الرجوع إلى النصّ الإنجليزي، لأتفاجأ بالقدر الكبير من الشطب "الأخلاقي" الذي أعمله المترجم في النصّ كي يعقّمه من كل إشارة قد ألفاها منافية للأخلاق العامة حسب تصوّره. فيسقط تمامًا (ص21) ذكر الجنس والاستمناء والمثليّة الجنسية، وهو ما كان يخشاه الأهل على الأبناء حسب ما الراوي في النص الإنجليزي. "فقد اعتقد آباؤنا (ترجمة parents) أنه يمكن أن يفسد أحدنا الآخر بحيث نصير ما يخشونه بشدّة" (ص 21). فعدا عن ضعف العبارة العربية هنا، أسقط المترجم بعدها ما هو المقصود بما يخشاه الأهل: "إدمان الاستمناء، والعلاقات المثلية الشبقة، والخلاعة الجنسية التي تنتهي بتحبيل البنات". يسقط هذا من الترجمة، على مبدأ "لا أريكم إلا ما أرى"، حيث يجعل المترجم نفسه وصيًّا على القارئ والنصّ الجديد، دون إشارة حتّى لأنّه أعمل منشار التصرّف الأخلاقي في عمله.  

في مواضع أخرى من الترجمة يعجز المترجم خالد مسعود شقير عن إيجاد مقابل يرضاه لعبارة (Fucking bastard)، فيعمد بكل استخفاف إلى حذفها. ففي صفحة 25، بعد جملة ركيكة أخرى لا تنقل المعنى المقصود، يسقط المترجم ما ذكره الراوي عن ممارسة أحد الشخصيات للجنس مع فتاة أخرى، ويكتفي بقوله "يبادلها الغرام"، ويسير على هذا النحو في أكمل الرواية، باستخدام "بادل الغرام" أو "تقارب مع"، وفي بعض المواضع "تواصل جسديًا مع" بدل "مارس الجنس" أو "نام مع" أو سوى ذلك من الأفعال والعبارات التي تصف هذا الفعل الطبيعي في حياة البشر.

يعود المترجم في صفحة 38 من الترجمة، لمشرط الحذف مجددًا عند الحديث عن استمناء الراوي وهو يتخيل حبيبته في وضعية جنسية، فيحذف جملة كاملة كي يتفادى ترجمة ذلك. ثم في صفحة 51، يحذف المترجم بكل بساطة ستة أسطر بأكملها من فقرة تتحدث عن لقاء جمعه مع حبيبته بعد أن انفصلا، في مشهد سريع وساخن من التقبيل وإطفاء الإنارة وخلع الملابس وارتداء الواقي من نوعية ديوريكس! كل هذه التفاصيل قرر المترجم أن يتجاهل وجودها، ويظل على منوال من الحذف والتغيير حتى نهاية العمل.  

من المرفوض قطعًا أن يتقمّص المترجم شخصيّة الخائن ويحذف من النص دون أن يكلّف نفسه بالإفصاح للقارئ عن ذلك

هذا المثال من الرقابة الذاتية على العمل الإبداعي هو مظهر لانعدام حريّة التعبير في مجتمعاتنا، وحالة الرداءة في صنعة الترجمة والنشر عربيًا. إذ يتمّ كتم كل اختلاف وتابوهات اجتماعية وسياسية ودينية، بدعوى "الحفاظ على سلامة المجتمع"، حتى لو سلك المترجم في ذلك مسلك الكذب والغشّ والانتهازيّة، وكأنّ أحدًا أرغمه على الترجمة. وإن كانت الترجمة الأمينة تمامًا أمرًا مستحيلًا، فكيف بنا ونحن أمام هذا السيل من الترجمات المهلهلة المخنوقة وغير الدقيقة عن قصد ووعي من المترجم أو المترجمة، وكأنه لا يكفي ما يسبغه على النص بشكل غير واعٍ من خلفيته الإيديولوجية والدينية والفكرية حتى لو زعم التجرّد من ذلك كلّه.

اقرأ/ي أيضًا: حوار مع 3 مترجمين.. في ضباب الترجمة ويأسها

للنصّ عند ترجمته مستوى فريد من الانكشاف على القارئ، ولست أنكر هنا أن تناول الجنس في الأدب والترجمة ما يزال يشوبه قدر كبير من الحساسية المفرطة عربيًا كما في لغات أخرى، وسيظل هنالك دومًا مستوى ما من الرقابة الذاتية في العمل الإبداعي لمناورة القيود المفروضة عليه والانسجام مع خلفية المبدع الأخلاقية والدينية ومقارباته لما يعده لائقًا ومقبولًا. أما المرفوض قطعًا فهو أن يتقمّص المترجم عن وعي شخصيّة الخائن الانتهازي ويحذف فقرات وسطورًا بأكملها من ترجمة عمل أدبي هام، دون أن يكلّف نفسه بالحدّ الواجب الأدنى من المهنيّة والصدق بالإفصاح للقارئ عمّا أتاحه لنفسه من حريّة في التصرّف في الترجمة، وما أجراه عليها من حذف وتشويه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا يُترجم الكتاب الواحد 16 ترجمة مختلفة؟

عن دور النشر وكتبها المترجمة