07-فبراير-2016

عمل فني لـ منير فاطمي/ المغرب

التراث

يقف التراث العربيّ، بما هو العمليات التفكيرية في شتى المعارف سيما الفلسفية منها، على أساس مفهوم يستمدّ طاقته ومجالاته الحيوية من النص القرآنيّ. بهذا الفهم لا يندرج النص القرآني المؤسِّس، بحسب الجابريّ، في جملة التراث، بل هو نصّ متعال يتسم بخصوصيّة المرسِل والرسالة في اللحظة التاريخية المفصليّة، لحظة الوحيّ. إنّه، بتعبير آخر، لا تاريخية النصّ وتاريخية القراءات.

يتكّئ الجابري في قراءته للتراث الفلسفيّ العربيّ على منهجية يسميها "معاصرة المقروء"

لعلّ توظيف المحتوى المعرفي الفلسفي اليونانيّ (أرسطو-أفلاطون) في الصراع الأيديولوجيّ في دوائر الفكر العربيّ الإسلاميّ يشكل المفتاح الرئيسيّ في فهم المفكر المغربيّ محمد عابد الجابري (1936-2010) للتراث بشقيه: المشرقيّ (ابن سينا-الغزالي) والمغربيّ (ابن باجه-ابن رشد-ابن الطّفيل). إنّه نمط من الفهم حدا بصاحب نقد العقل العربي إلى إعلان القطيعة بين ابن سينا (370 هـ-427هـ) وابن رشد (520 هـ-595 هـ) وإلى تعميق قراءاته في جذور هذه القطيعة متتبعًا بدايات الكلام والمنطق.

سلفية القراءة

يتكّئ الجابري في قراءته للتراث الفلسفيّ العربيّ على منهجية في القراءة. إنّها، باصطلاحه، "معاصرة المقروء"، أيْ جعل المقروء معاصرًا لنفسه بمعنى فصلهِ عنّا وجعله معاصرًا لنا، أي وصله بنا من هذا المنظور. وهي، قراءة تختصر في ثلاث منهجيات رئيسية تصب جميعها في خانة القراءات السلفية، بمعنى أنها قراءات لا تاريخية، تقع على الدوام في مطب التكرار، أحادية النظرة وهي على حدّ قول الجابري "لا تستطيع أن تنتج إلا فهمًا واحدًا هو الفهم التراثي للتراث"

أما المنهجيّة الأولى فتعبّر عن سلفية دينيّة لا ترى إلى التاريخ إلا من منظور دينيّ يصبح معها التاريخ ممتدًا في الحاضر لا يحركه سوى عامل رئيسيّ هو العامل الدينيّ، وما عداه فثانويّ أو تابع أو مشوه. والثانية هي عبارة عن سلفية استشراقية تدّعي الدفع وراء اهتمام هو محض فهم ومعرفة. إنها منهجيّة لا تأخذ من المستشرقين سوى منهجهم العلميّ فيما تتناسى الرؤية. وآخرها المنهجية الجدلية التي اعتمدها اليسار العربي نمطًا في القراءة. يغدو التراث العربيّ تبعًا لهذه المنهجيّة انعكاسًا للصراع الطبقيّ من جهة وميدانًا للصراع بين المادية والمثالية من جهة أخرى. تفضي هذه القراءة، بطبيعة الحال، إلى سلفية ماركسية أيْ إلى محاولةٍ لتطبيق طريقة السلف الماركسيّ للمنهج الجدليّ.

ابن سينا-ابن باجة

إن الشيخ الرئيس أبا عليّ ابن سينا، بحسب صاحب نقد العقل العربيّ، وإن تبنّى نظرية الفيض الفارابية، فإنه، واقعًا، قد أعلن القطيعة مع فيلسوف قرطبة "ابن رشد" على خلافِ ما كان سائدًا بين المفكرين، إذ إنّ ابن سينا، بحسب الجابريّ، لم يتجاوز أرسطو ولا كان في مستوى أرسطوطاليسية الفارابي. الأمر الذي أوقع الجابريّ في العديد من الانتقادات. ففي حين يُرجع أرسطو الأسباب كلها إلى المادة والصورة، ما يعني تفسير الحوادث في الكون تفسيرًا آليا، فإنّ ابن سينا قد اعتبر السبب الغائيَّ سبب الأسباب. إنه الفهم الذي يفضي إلى القول بالخالق وإلى العودة إلى روحانية أفلاطون.

يرد الجابري سبب تحرر ابن باجة إلى قدرته على التخلص من القيود الثقافية التي كانت تكبل الفلسفة في الشرق

وبخلاف السائد، لا يلقي الجابري بالمسؤولية الكبرى في تكريس الغيبية الإشراقية على الغزاليّ بل يردّها في الأصل، إلى الشيخ الرئيس صاحب "الإشارات والتنبيهات" معتبرًا أن دمج الدين بالفلسفة أو ما يسمى التوفيق بين العقل والنقل كان الهاجس الرئيسي الذي تمحور حوله الفكر الفلسفي الإسلاميّ المشرقي ذو الأصول الحكمية الفارسية-الأفلاطونية المحدثة.

وفي المقابل نعني في الأندلس يتحدّث الجابريّ عن خطاب علميّ (علمانيّ) بدأ يتأسس مطلع القرن السادس الهجريّ مع ابن باجة(ت533 هـ)، بمعزل عن إشكالية الهاجس اللاهوتيّ في المشرق أي إشكالية التوفيق بين العقل والنقل. إنّه الخطاب الذي أنتجه، في العمق، انشغال علماء الأندلس بتحقيق التوافق بين العلم والفلسفة.

على أنّ المستنَد الرئيسيّ في فهم الجابريّ للتراث بشقه المغربيّ، فيما يتصّل بتطور سياق الفلسفة في المغرب العربيّ متحررةً من إشكالية اللاهوت المشرقيّ، هو كلامٌ لابن الطّفيل في مقدمة رسالته الفلسفية الشهيرة "حيّ بن يقظان". إنّها، بحسب الجابريّ، شهادة بالغة الأهمية تحدد تطور الفكر العلمي والفلسفي الأندلسيّ في ثلاث مراحل، تكون مفتتحة بالرياضيات ومن ثمّ الرياضيات والمنطق مع "صاعد الأندلسي"، وصولًا إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الفلسفة البرهانية التي دشنها "ابن باجة". يرد الجابري سبب تحرر ابن باجة (تدبير المتوحّد) في تآليفه الفلسفية إلى قدرته على التخلص من القيود الثقافية التي كانت تكبل الفلسفة في الشرق، وتحديدًا القيود والعوائق الإبستيمولوجية التي أورثها إياها علمُ الكلام من جهة والأساس الغنوصيّ للأفلاطونية المحدثة من جهة أخرى.

يُعتير ابن باجة، بحسب الجابري، المدشن الفعليّ للمشروع الثقافيّ الفلسفيّ في الأندلس حيث تجاوز في فلسفته التأويلات السينوية. واعتمد منهج الرجوع إلى الأصول أي الرجوع إلى أرسطو ذاته أي تفسير إشكاليات أرسطو العلمية والفلسفية بواسطة أرسطو نفسه وهو المشروع الذي أكمله فيلسوف قرطبة فيما بعد.

اقرأ/ي أيضًا:

محمد أركون.. حرب فكرية على السياجات الدوغمائية

طرابيشي في عباءة سلفية